Author

الخطر في المصارف كمؤسسات «سيادية»

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«النظام المصرفي الحديث يصنع الأموال من لا شيء» جوش ستامب اقتصادي وصناعي بريطاني حسنا.. الكتابة عن المصارف وعلى وجه الخصوص الغربية منها، لا تقاوم. ليس من حيث التطورات الخاصة بها، ولكن أيضا من جهة الخبايا والأسرار والسلوكيات والعلاقات، وتداخل مصالحها ببعض الحكومات الغربية. إنه عالم يدفعك لمتابعته حتى لو لم تكن ترغب في ذلك. ورغم أنه من المفترض، أن كثيرا من القضايا والمشاكل التي مرت بها المصارف، ومرت بها المجتمعات الغربية كلها، حلت. إلا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فالمشاكل تكاد تكون هي، والقضايا لم تتغير في هيكليتها، بحيث باتت "الإصلاحات" التي طبقت عليها جزئية، وفي بعض الحالات، لم تحدث هذه الإصلاحات أي نقلة إيجابية. ولعل من أكبر المشاكل، أن المصارف الغربية لا تزال تعتبر نفسها مؤسسات ذات سيادة! وأسهمت الحكومات المتعاقبة في الغرب بتكريس هذا الوهم. بصرف النظر عن الإجراءات التي اتخذتها ضدها في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية قبل سبع سنوات. غالبية الحكومات تدخلت في أعقاب الأزمة، تحت عنوان عريض هو "حماية أموال المودعين"، وهذا صحيح بالفعل، لكن الصحيح أيضا، أنها تدخلت من أجل الحفاظ على ما أمكن من هيبة هذه المصارف، التي ارتبطت في بعض الحالات بهيبة الحكومات نفسها، خصوصا بعد عقود من تسويق مضلل على مدى عقود للمصارف، بشعار مقيت هو "أنها مؤسسات لا تقهر"! النتيجة، كانت أنها قهرت وأهينت وأذلت. وتكرست الحقيقة الوحيدة على الساحة، أنه في عالم المال والاقتصاد والأعمال، لا يوجد كبير دائم محصن من انتكاسات أو انهيارات. وتزداد هذه الحقيقة قوة، عندما تكون الأوهام جزءا من حراك هذا المصرف أو ذاك، ووقتما تصبح سلع المصارف وهمية وورقية أيضا. ولهذا السبب (مثلا) أسندت بعض المصارف الكبرى والمتوسطة نفسها أمام رياح الأزمة، بالأموال القذرة. أما الأموال الحقيقية فقد تبخرت مع بداية العاصفة. نجحت بعض البلدان الأوروبية في كبح جماح المصارف لديها، ليس حبا في الكبح، بل تجاوبا من استحقاقات الأزمة. وفشلت بلدان أوروبية أخرى في ذلك. ومما لا شك فيه، أن الإدارة الأمريكية حققت تقدما أكبر من الحكومات الأوروبية في هذا المجال، رغم كل المواقف المعلنة من جانبها، بأنها لن تتهاون مع ممارسات وسلوكيات وقباحات المصارف لديها. ويتفق المتابعون الأكثر التصاقا بالمؤسسات المصرفية الأوروبية، على أن بعض الحكومات في القارة العجوز، اختارت إنقاذ المصرفيين بدلا من شطب الديون. وكان بإمكانها أن تقوم بالخطوتين في آن معا، وبذلك تحقق إنجازات سريعة في هذا المجال. ورغم التجربة الناجحة في أيسلندا على صعيد ضبط المصارف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أن حكومات منطقة اليورو، فضلت عدم التعلم من التجربة الأيسلندية. أبقوا على ما يمكن إبقاؤه من مديري المصارف (بعض المديرين لا يمكن بأي صورة الإبقاء عليهم في مناصبهم، من فرط تورطهم المالي القاتل)، وتجنبوا (قدر المستطاع) فرض ضوابط ورقابة على تدفق رؤوس الأموال، مما أفسح المجال، أو أبقاه، أمام الأموال المشكوك بمصادرها، أو تلك التي تمثل وصمة عار على النظام المالي العالمي بأكمله. السياسيون المعجبون بالمصارف كمؤسسات تدعم السيادة، أي بدرجة أقل من "مؤسسات سيادية"، أملوا أن يتم الإصلاح حتى بالرموز المصرفية المتسخة. صحيح أنهم فرضوا ضغوطا على هذه الرموز، إلا أنها لم ترقَ إلى الإجراءات التي اتخذت في الولايات المتحدة أو أيسلندا مثلا، كما أنها لم تحقق أهم الأهداف في عمليات الإصلاح الإجبارية، وهي تنظيف السلك المصرفي الأوروبي من الأدران، وتحويله إلى سلك مساند، ليس للحكومات فقط، بل للناس أيضا. لا عجب إذن، أن تسعى بعض المصارف الكبرى جدا (مثل إتش إس بي سي، ولويدز وغيرهما)، إلى اتباع طرق احتيالية معلنة لتنظيف السمعة، أو للتحول إلى مؤسسات مصرفية أكثر شفافية ونزاهة وانفتاحا على المعايير الأخلاقية. ومن بين هذه الطرق، السعي إلى تغيير العلامات التجارية لها. حدث ذلك في بريطانيا قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، ومن المتوقع أن يحدث لاحقا، خصوصا في ظل التراخي الفاضح في عمليات الإصلاح المصرفية في مختلف أنحاء أوروبا الغربية على وجه الخصوص. ولا شك، في أن هذه المصارف ستستغل الأوضاع الراهنة قدر المستطاع، للالتفاف ما أمكن على أية إجراءات مضادة، أو أي خطوات جديدة تنطلق بدافع التصحيح الحقيقي لا الوهمي، أو لا الجزئي. ليس هناك شكوك في نوايا الحكومات الغربية تجاه هذه القضية المتفاعلة. لكن الواضح أن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها أربكتها إلى أبعد الحدود، دون أن ننسى، وجود تلك القناعات القديمة العفنة، التي ترى في المصارف حالة سيادية تستحق الحفاظ عليها، بصرف النظر عن أدائها، بل وتورطها بمخالفات يستحق مديروها ليس العزل والغرامات فحسب، بل والمحاكمات أيضا. ارتكب هؤلاء "جرائم مصرفية" نالت من المصارف نفسها، في سياق نيلها من كل الأطراف. ووضعت المؤسسات المالية في دائرة الشك لسنوات طويلة، بل ولعقود..
إنشرها