Author

إساءة استخدام الولاية .. جريمة

|
توفي جارنا حين كنت في المرحلة المتوسطة، تاركا وراءه زوجة وأربع بنات وولدا، كانوا مثل إخوتنا، وكانت الأحب والأقرب إلى قلبي الأخت الكبرى الطبيبة التي شملتني بمحبتها واهتمامها مثل بقية إخوتها تماما. لم تكن "نوال" إنسانة عادية بالنسبة لنا كنا نرى فيها القدوة والصورة المثالية التي نتمنى أن نصبح عليها حين نكبر. كانت جميلة، أنيقة، مرتبة، تُجيد عمل أشياء كثيرة. طوال سنوات دراستها في الكلية اعتادت أن تجمعني مع أخواتها بعد عودتها لتساعدنا بنفسها الطيبة وروحها الملائكية على حل الواجبات، وتكافئنا بعدها بلبس معطفها الأبيض. كانت تعمل لساعات طويلة في مناوبات إضافية لتتمكن من إعالة أسرتها وتوفير احتياجاتها بعد وفاة والدها، رأيتها كيف تغدق بحبها وحنانها على أخيها الذي كان يصغرها بـ 16 سنة، فكانت له الأم التي تطعمه وتلعّبه و"تحممه" وتعلمه وتهرع به إلى المستشفى حين يمرض، واستمرت في إقامة حفلات لنجاحه منذ أن كان في الابتدائي إلى أن دخل الجامعة. في ليلة ظلماء استيقظ كل من في المنزل على صوت عويل واستغاثة. نظرت من النافذة فوجدت شخصا يهوي بعصا غليظة على نوال التي كانت مسجاة على الأرض بمعطفها الأبيض الملطخ بالدماء. هرعت إلى الشارع لأجد أسرتي والجيران يسحبون عصاه ويحاولون السيطرة على المعتدي الذي لم يكن سوى أخيها. كان يدق رأسها بقدميه بوحشية ويركلها لتصطدم بحافة الرصيف مرارا وتكرارا. حين حملها الناس للبيت طُبع في ذاكرتي منظر الدماء وهي تسيل من عينها اليسرى ومن أنفها وفمها. بكينا تلك الليلة كثيرا ونحن نتابع أمهات الجيران يداوين جروحها ويواسين والدتها التي لم تصدق فعله، وكيف ثار غاضبا بعد أن عرف أنها وافقت على زواج نوال من طبيب عربي يعمل معها فهاج صارخا "ماذا سيقول الناس عنا؟"، وتوعدها بالذبح ريثما تعود من المناوبة. في ظهيرة اليوم التالي للاعتداء دفعت الأم نوال على الهرب والاختباء في منزل خالها، الذي كان يقيم في منطقة أخرى، خوفا على حياتها. نامت نوال ليلتها الأخيرة في منزل خالها مبكرا محتضنة صدمتها وجروحها وآلامها، وفي الصباح لم تستيقظ ـــ رحمة الله عليها. مر أكثر من 20 عاما وجريمة نوال ما زالت تتكرر بسيناريو وضحية مختلفتين. "قتيلة دار الحماية في جدة" حركت المياه الراكدة لمستنقع الاستبداد الذي لم يجف بعد، بل ما زال يغرق ويخفي في أعماقه جثثا لفتيات اعتقد ذووهن أنهن ملكية خاصة ولا يحق لهن اتخاذ أي قرار حتى إن كن راشدات. والمفارقة الغريبة حين تعرضت نوال للتهديد بالقتل فرت لتختبئ، لأن في ذلك الوقت لم يكن هناك قانون يتدخل في الأسرة لينقذها، أما قتيلة جدة فكانت تعرف حقوقها حين لجأت للقانون، ولكن الاستبداد والفجور في العناد كان يغذي عقل أشقائها بموروث الجاهلية الأولى، فلم يرتكبوا بحقها جريمة واحدة بل أكثر من جريمة على التوالي بين حبس وخطف وترويع وتهديد! وعلى الرغم من أن القانون حكم لمصلحة المرحومة، إلا أن الغرور أعماهم وجعلهم لا يستعلون على شرع الله فقط، بل فجروا في الخصومة والاستبداد ليتقدم أحدهم ويقتلها دفاعا عن الجهل! فيما تابع الجميع كل تلك التهديدات والانتهاكات بسلبية مميتة إلى أن قتلت.. ثم تحركوا! تملكني حزن شديد على القتيلة - رحمة الله عليها- وشعرت بالذنب لأننا لم نستطع إلى الآن ترويض وحش العنصرية والتعصب القبلي وغيره من نعرات ما زالت تدفع تلك الفئة الاستعلائية من الناس إلى عضل بناتهم لاقتناعهم بأنه لا يوجد على الأرض نسب أعرق من نسبهم. وأصبح الاستبداد منطقا سليما لكل من نشأ على تبجيل التعصب وسلب حقوق الآخرين، وفوق ذلك المجاهرة بأفكار متخلفة بكل رعونة وزرع فكرة أن نسبهم وسلالتهم أفضل مما عند الله، وأن عاداتهم وتقاليدهم المقدسة أكبر من أن يطبق عليها تشريعات الإسلام، وقدموا الخوف من "كلام الناس" على الخوف من غضب الله، فإذا كان وأد الفتاة خوفا من العار في الجاهلية، ففي هذا الزمن أصبحت توأد بعملية استغفال جماعية للمجتمع لتبرير تعنيفها واستعبادها وسلب أبسط حقوقها باسم الدين تارة والشرف تارة أخرى، ثم نتساءل من أين خرجت تلك الفئة المتطرفة؟! إساءة استخدام الولاية جريمة نكراء تكررت تجاوزاتها لشرع الله، وأصبح من الواجب أن يعاقب عليها القانون بصرامة ووضوح، وينبغي أن يأخذها المصلح الاجتماعي والإخصائي في الدولة على محمل الجد لعلاجها، فالأسرة الآمنة واحدة من أهم عناصر بناء المجتمعات الصحية الناجحة، ومن واجبنا كمجتمع إيقاف تغلغل تلك الأفكار والممارسات الجاهلية بالتكاتف وإعلان حرب توعوية مكثفة ضد المفاهيم العقيمة وتنوير المجتمع في رسالة مباشرة تحمل أن "ابنتك، أختك، زوجتك إنسانة حرة مثلك وليست ملكا لك بل تتساوى معك في الحقوق والواجبات والرغبات سواء رضيت أم أبيت"، وكما جاءت شريعة الله تعالى بتكليفك برعايتها وتكريمها واحترام كيانها، جاءت أيضا بقوانين تعاقبك وتسجنك حين تخون الأمانة وتفجر في الإساءة.
إنشرها