Author

«وظيفتك وبعثتك» .. هل تكفي؟

|
وقعت -وما زالت توقع- وزارة التعليم خلال الأيام الحالية اتفاقياتها التي شملتها بمسمى "وظيفتك وبعثتك"، وللوهلة الأولى تظهر هذه الاتفاقيات المدشنة ضمن المرحلة الثالثة لبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث وكأنها تحل مشكلة المواءمة بين مخرجات الابتعاث وسوق المهن المحلية. على الرغم من غياب التفاصيل التي تسمح بتقييم الأثر المتوقع من هذه المبادرة الجديدة إلا أنها في نظري مواءمة غير ملائمة، ولا تعتبر -كما يتم الحديث عنها- أنها الحل المنتظر للإشكاليات المتعددة المرافقة للابتعاث الخارجي تحديدا. تستند فكرة المواءمة أساسا على نموذج كلي يدرس مخرجات التعليم الخارجي والداخلي ويوائم بينها وبين الاحتياجات المحلية. ولكن يظهر أن وزارة التعليم ارتأت الاعتماد على نموذج جزئي يربط مباشرة بين مخرجات التعليم الخارجي وبعض الجهات التي تستطيع استيعاب أعداد معتبرة من الوظائف، مثل المؤسسات الوطنية الكبرى التي تم التوقيع معها "الخطوط السعودية" خمسة آلاف وظيفة، "مؤسسة النقد" خمسة آلاف وظيفة، و"الطاقة المتجددة" ألف وظيفة، "تحلية المياه" ألف وظيفة ويظهر أن هناك المزيد". قد يكون قرار الاعتماد على هذا النموذج الجزئي -وليس الكلي- بسبب غياب المعلومات المحدثة والكافية إضافة إلى ضعف الجهود التنسيقية بين وزارات العمل والخدمة المدنية والتعليم والاقتصاد والتخطيط. على سبيل المثال، لا تعني تجربة "الخطوط السعودية" الناجحة مع الابتعاث الخاص بداية الثمانينيات الميلادية نجاح التجربة مرة أخرى خلال الفترة المقبلة. فالطالب المبتعث الذي يرتبط اليوم بعقد طويل الأجل مع الجهة التوظيفية ينال من الالتزامات أكثر من الامتيازات -الامتياز الأهم المكتسب هو ضمان الفرصة الوظيفية- وبالتالي يفقد حوافز التميز. وهذا يختلف تماما عن الفترات السابقة، حينما كان ضمان الحصول على الوظيفة امتيازا لا يقدر بثمن، بينما قد يكون كذلك اليوم للطلاب الكسالى فقط. قابلت عديدا من مبتعثي الجهات الحكومية ممن يخطط فعليا لفك الارتباط بجهة الابتعاث في أقرب فرصة، طمعا في العمل في القطاع الخاص الأكثر إغراء من الناحية المادية والأجود في بناء المؤهلات المهنية. تتعلق معظم هموم الابتعاث اليوم برفع كفاءة مخرجات البرنامج إضافة إلى تأكيد عدالة التطبيق والمتابعة. تباين المعاملة بين الجهات المشرفة على الطلاب المبتعثين -كالملحقيات مثلا- وشكاوى قضايا الالتحاق المنتشرة في وسائل الإعلام إضافة إلى تفوق مبتعثي الداخل على بعض الطلاب المبتعثين في الخارج تبين حجم هذه القضايا. على الرغم من التطور الضخم في حجم لوائح الابتعاث خلال العشر سنوات الأخيرة وكمية الموارد التي يتم استهلاكها تحت مظلة هذه البرامج إلا أنها في نظري لا تزال دون الطموح. بل إن حجم الفرص المفقودة والخسائر غير المحتسبة يشكلان أكبر إرهاق للميزانية التنموية، وهي خسائر نوعية ترسخ آثارها لعدد غير قليل من السنوات. لا نستطيع الحكم على جودة برامج الابتعاث المنتهية بالتوظيف والسجلات المعلنة لا تذكر حجم التخلف والانقطاع والخسائر في البرامج السابقة، سواء تلك الكبرى التي تنفذها المؤسسات الوطنية مثل "أرامكو" و"الخطوط السعودية" أو الحكومية مثل برامج الجامعات والجهات الأخرى. وبالتالي، لا يستند الرهان على مجموعة جديدة من هذه البرامج إلى خلفية موضوعية كافية. ما أستطيع قوله وبحكم تجربتين شخصيتين مع برامج الابتعاث -وأنا بكل تأكيد لا أنكر فضلها وفضل من حرص على تنفيذها- إلا أنها تفتقر إلى عديد من المحفزات والأدوات المؤثرة. أفضل التغييرات التي شعرت بها خلال السنوات الماضية هو تطور الحلول الإلكترونية "مثال: سفير، بوابة المبتعث" وربما إيقاف القبول في الجامعات المتكدسة. والنقطة الأخيرة تقودنا إلى أن سياسة الكم وليس النوع هي ما كان متبعا في سنوات الابتعاث الأخيرة، والمهم الآن هو الانتقال إلى السياسة النوعية التي تبني هرم العناصر المهنية المعتبرة في سوقنا المحلية، ولا تضيف إلى تشوهاته المزيد. التجارب المميزة في بعض الملحقيات تستحق التعميم "مثل تيسير القبول في الجامعات المتميزة"، والطلبة في معظم دول الابتعاث يتعطشون إلى المزيد من الدعم في الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تضطرب حاليا بالمد والجزر التنظيمي، ولا يزال دعم الجوانب المهنية للطالب شبه غائب عن خريطة الابتعاث. موظفو الملحقيات لا يعرفون ولا يعترفون بالشهادات المهنية المتميزة في بعض التخصصات على الرغم من أن دعم حصول الطالب عليها يعني تعزيز قدراته المهنية والفنية التي تعود بالنفع المباشر في مشوار تأهيله، وهذا من أهداف الابتعاث الأصيلة بلا شك. إتمام الرحلة الأكاديمية بنجاح وتوقيع عقد الارتباط بوظيفة ما لا يشكل في نظري أهم أهداف برامج الابتعاث، لذا أجد أن السعي خلف هذا الهدف أمر لا يستحق الاحتفاء به. يتحقق المطلوب باكتمال عناصر التجربة الثقافية للمبتعث، تخطيطا ورصدا ومتابعة، وذلك بصنع منتجات بشرية مميزة وراضية تحقق التأثير النوعي الذي نطمح له في مسيرة التنمية الوطنية، وهذا لا يكون إلا بالتركيز على المدخلات والأساليب النوعية المميزة، بدءا من الإعداد المهني والثقافي ودمج الطلبة في المؤسسات المتميزة وحتى التطوير الشامل لكل الخيارات والأنشطة التي يمر بها المبتعث خلال رحلته.
إنشرها