Author

الابتعاث بين التجاوز والاحترام

|
تفنن بعضنا في اختراع أساليب يخترق بها أي نظام أو قانون لا يعجبه، دون أن يفكر في وضع خطط بديلة توازي خطته الأساسية ليواجه بها الظروف متى ما أخفق في تنفيذها. فلا يوجد نظام إلا وتمت إساءة استخدامه والالتفاف عليه في تجاوزات لا تخطر على البال. على سبيل المثال حين وضع نظام ساهر لمصلحة الناس والحد من الحوادث والسرعة الجنونية، تم تكسيره ومهاجمته، لأن رابطة السائقين المستهترين لا تستطيع الإذعان لقانون يحد من ممارسة الفوضى. وحين تم تطوير النظام وتشديد العقوبة، تم ابتكار أساليب لطمس اللوحة. المشكلة أن عملية التخريب لاقت استحسانا وتأييدا بين شريحة كبيرة، ولكن حين لا تُحترم الأنظمة واللوائح تنتشر الفوضى، ويخترق الإنسان حدود آدميته ليصبح أقرب للهمجية. يعد برنامج الابتعاث واحدا من أفضل البرامج التي قدمتها الدولة لأبنائها، إذ خدم هذا البرنامج منذ انطلاقه منذ عشر سنوات أكثر من 150 ألف مبتعث، تخرج منهم 55 ألف شخص من بينهم عباقرة ومبدعون أثاروا إعجاب معلميهم في دول الابتعاث، ورفعوا رؤوس أهاليهم، وظلوا أيقونة يفخر بها الوطن. بدأت وزارة التعليم في تنفيذ الأمر السامي بضم الطلبة والطالبات الدارسين على حسابهم ممن بدأوا دراستهم الأكاديمية للبعثة، ودفع رسوم فصلين لمن يدرسون اللغة، وإعفائهم من شرط النسبة والمعدل والـ 30 ساعة التي كان يجب عليهم إنهاؤها نظرا لظروفهم المادية؛ لذلك ينبغي على الطلاب بذل جهودهم في المحافظة على مستويات معدلاتهم، لأن تدنيها سيدخلهم دائرة الأزمة من جديد. حين تم تطوير البرنامج ووضعت له متطلبات أساسية كان هدفها توعية وحماية الطالب قبل سفره، ولكن الدراسة على الحساب الخاص لم تصبح فقط الخطة البديلة للطالب الذي لا يستطيع استيفاء شروط البعثة من حيث النسبة والمعدل، بل أغرت عددا كبيرا بحزم حقائبه والسفر للدراسة، ضامنا القبول دون أخذ بعض الشروط الأساسية على محمل الجد، بل تبني سياسة الأمر الواقع بالانضمام بشروطهم الخاصة! مع العلم بأن الجميع على دراية تامة بأن البرنامج له شروط لا تقبل التنازل أو التهاون مثل "ألا يكون قد سبق فصله من البعثة أو من إحدى الجامعات السعودية". والشرط الـ 13 والمكتوب في موقع الوزارة والأكثر وضوحا ويقتضي بأن "الموافقة على الدراسة على الحساب الخاص لا تعني الموافقة على الإلحاق بعضوية البعثة التعليمية" والذي كان كفيلا بجعل الطالب يتروى قبل الإقدام على مغامرة لا يستطيع إكمالها للنهاية، فلماذا اعتمد البعض على الكلام المنقول من تجربة الآخرين وتمسك بالوعود الشفهية، بينما كانت الشروط المكتوبة واضحة كالشمس؟ برنامج الابتعاث وضع شروطا كان لابد من احترامها، فلم يترك أمرا أو نقطة دون توضيح، ولم يهتم فقط بالطالب، بل حتى بزوجته وأولاده، ووضع لهم شروطا توضح كيفية إلحاقهم بالبعثة، فليس من الإنصاف حين لا تطابق طلبات مجموعة من الطلبة الشروط تنقلب الموازيين ويتم تشويه هذا البرنامج وتجاوز حدود الأدب مع القائمين عليه، وإشعال النت باتهامات امتدت من واشنطن إلى الرياض! المبالغة برفع الصوت والصراخ وتصوير المواقف التي لا تستحق التصوير بالجوالات، مثل ما حدث في ملتقي الدمام، ممارسات ترسل رسائل سلبية تفقد صاحبها المصداقية. كنت أتمنى ألا تتم المبالغة في التصعيد العاطفي دون الوقوف على تفاصيل وأسباب من لم يتجاوز الشروط بدلا من وضع الجميع في مكيال واحد. حين لا يكترث الشاب بأهمية النقاش الحضاري المتمدن، ولا يبالي بفضيلة الاعتراف بالخطأ بشجاعة دون تعليقها على عاتق الآخرين، ويرى أن السفر قبل ضمان الموافقة لا يعد خطأ، فهذا يعني أن المستقبل ينذر بمشكلة كبيرة. ومنذ أن بدأ عدد الدارسين على حسابهم الخاص في التزايد، بدأ الأمر يخرج عن السيطرة إلى أن وصل عددهم إلى 15 ألفا يتوقع أغلبهم أن يتم ضمهم للبعثة. وتعمل الوزارة حاليا على إلحاق 368 ممن تنطبق عليهم الشروط، لذلك أصبح من الضروري الآن أن تتخذ الوزارة إجراءات احترازية لضبط تلك الأعداد، حتى لا يخرج البرنامج عن أهدافه ويتحول إلى برنامج سياحي ويفقد جودته. إن الوزارة مجبرة على تطبيق شروط البرنامج الأساسية بتحقيق عدة أهداف أهمها "جودة" الكوادر البشرية، و"الإنصاف" حين لا يعطى الطالب الذي يفصل أو يطرد فرصة طالب آخر ينتظر، و"الوضوح" الذي وضعت به الشروط في الموقع، وكلها أمور تستحق أن نحترمها ونقبل بها. ومع اقتراب انطلاق النسخة الثالثة من البرنامج الذي سيبدأ التقديم عليه في العاشر من رمضان، أتمنى ألا تترك الوزارة منطقة رمادية قابلة للاختراق خاصة ونحن لنا سوابق في اختراق اللوائح والنفاذ من الثغرات بكل سهولة، بل ينبغي أن تحدد العدد المقرر لقبول الدارسين على حسابهم كل سنة لكيلا تتكرر تلك الفوضى. علمتنا دروس الحياة ألا نتخذ قرارات مصيرية مبنية على وعود قبل الحصول على ضمانات ملموسة "مكتوبة"، لأن الوعود الشفهية مهما كانت قوية لا تعد ضمانا صلبا يبني عليه الإنسان مستقبله. وحين "تختار" أن تسلك طريقا أسرع ومختصرا في رحلتك، عليك أن تتحمل جميع تبعات اختيارك للنهاية، التي من ضمنها مفاجآت الطريق، لأن الأخطاء حين تبدأ صغيرة تفتح مع الوقت أبوابا قد يصعب إغلاقها.
إنشرها