Author

اقتصاد الطعام المهدر

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"هناك طعام لكل إنسان على وجه الأرض. لكن ليس كل إنسان يأكل" كارلو بيتريني رياضي سابق وكاتب إيطالي لم تعد غريبة الأرقام التي تصدر بين الحين والآخر عن هدر الطعام حول العالم. بات وقعها مثل مسلسل طويل ممل، يعرف متابعوه نهاياته من أولى حلقاته. ولم يعد مهما، دخول جهات جديدة على خط إعلان الأرقام "الصادمة"، التي تمثل بحد ذاتها اقتصادا آخر. كما ليس مستغربا، أن تجد سلوكيات الهدر في المجتمعات التي يفترض أنها بلغت درجة مرتفعة من النضج والرشد، بما فيها تلك التي أقدمت حتى على منع متاجر السوبر ماركت فيها من توزيع الأكياس البلاستيكية حفاظا على البيئة. في حين أن هدر الطعام يتم حتى في البلدان الفقيرة التي تحتاج إليه حقا، لأسباب لا تتعلق طبعا بالترف والوفرة، بل فيما يرتبط بفشلها في عمليات التخزين المناسبة للأطعمة. بالطبع أقدمت بعض البلدان المتقدمة على خطوات عملية في مجال مكافحة الهدر، لكن تبقى هذه الخطوات غير متناسبة لا مع معدلات الهدر، ولا المستوى المتطور للبلد نفسه. وربما يحتاج الأمر إلى سنوات أخرى، ليس لإنشاء ثقافة عدم الهدر، بل لتكريسها، لأن هذه الثقافة موجودة حقا في كثير من البلدان، لكنها ليست مفعلة بما يكفي، أو بما يتناسب مع مستويات الهدر التي تجري فيها. ولأن الأزمة خطيرة، لأسباب عديدة، في مقدمتها بالطبع، وجود مناطق في هذا العالم يعاني سكانها الجوع، أو في أفضل الأحوال نقص المواد الغذائية الأساسية. دون أن نتحدث هنا عن شح المياه النظيفة، وتلوث ما هو متوافر منها في غير منطقة من العالم. وهذه وحدها كارثة عالمية أخرى. تعتقد مجموعة العشرين، التي اتخذت زمام المبادرة الاقتصادية العالمية، أن هدر الطعام على المستوى العالمي، يمثل مشكلة اقتصادية ضخمة. وتقدر مستويات الهدر بأكثر من 30 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي! وأيا كان مستوى تعودنا على أرقام الهدر، فالنسبة صادمة جدا، وإن لم تكن غريبة. أمام هذه المشكلة، نعم يقف العالم أمام مشكلة كبيرة. وواجب البلدان المتقدمة أكبر من واجب غيرها في هذا المجال، على اعتبار أنها تقدم مثالا ناضجا لمحاكاة المستقبل، في كل المجالات، وفي مقدمتها بالطبع مجال الغذاء. دون أن ننسى قدرتها على توفير الآليات والتقنيات اللازمة في مجال حفظ الغذاء وغير ذلك مما يرتبط بالطعام المهدور. إضافة إلى ذلك، فهي قادرة اقتصاديا على معالجة المشكلة الاقتصادية التي تتحدث عنها مجموعة العشرين. الحكومة الفرنسية أقدمت أخيرا على خطوة لافتة، ويمكن أن تشكل دافعا لبقية الحكومات في البلدان الغربية لاعتمادها، وهي ترتبط بهدر الطعام من جانب محال السوبر ماركت الكبرى والمتوسطة. والحق أن فرنسا من أكثر البلدان الأوروبية تقدما في مسائل تحاكي المستقبل من خلال البيئة والطعام. لقد حظرت الحكومة على المحال المشار إليها، التخلص من المواد الغذائية غير المباعة، وبدلا من ذلك، التبرع بها للجمعيات الخيرية أو المزارع. والقانون الجديد، يمكن تلخيصه بـ"حظر إفساد الطعام عمدا، بحيث لا يمكن تناوله". والقانون يتعلق أيضا بالبيئة، إذ يفرض على الجهات المعنية، أن تتبرع بالمواد الغذائية منتهية الصلاحية للمزارع كعلف للحيوان أو سماد للأرض. كل مخالفة تضبط، سيدفع المخالف 75 ألف يورو. إنه قانون متماسك وقوي بكل المعايير، ويحتاج بالفعل إلى مراقبة من أجل متابعة تنفيذه. وفي كل الأحوال، اعتادت السلطات في فرنسا النجاح في تنفيذ القوانين بشكل عام. ويمكن هذا القانون أن يشكل بالفعل حافزا للعديد من البلدان الأخرى، بمن فيها العربية، التي لا أحد يعرف بالتحديد حجم المواد الغذائية الصالحة للاستهلاك ويتم رميها في القمامة، إلى جانب المطاعم التي تساهم أيضا بهدر كبير للطعام. بعد موقف مجموعة العشرين الأخير، يمكن التأسيس عليه وعلى الخطوات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية، بل بإمكان مجموعة العشرين العمل من أجل إصدار تشريع أو ما شابه ذلك، ينسحب على كل البلدان التي تقبل به. ولا توجد بالطبع حكومة شرعية ستعارض قانونا أو تشريعا مثل هذا. تؤكد مجموعة العشرين ما توصلت إليه منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة، بما في ذلك إهدار 1.3 مليار طن من الطعام سنويا. وتجمع المؤسسات العالمية المختصة، على أن هذه الكميات من الطعام المهدر تكفي بالفعل وليس بالقول لإطعام الجوعى الذين تبلغ أعدادهم حول العالم أكثر من 800 مليون إنسان. وفي كل الأحوال، فإن كل طرف في هذا العالم، سيحقق فوائد جمة من خلال سياسة أكثر رشدا في مسألة هدر الطعام. فحتى المساعدات الغذائية التي توفرها الدول الغنية للبلدان الفقيرة، ستنخفض إذا ما تم إيصال الطعام إلى المناطق التي تحتاج إليه، واستغلاله إلى أقصى درجة ممكنة. إلى جانب طبعا، الفوائد التي ستعود على البيئة ككل. هل بالإمكان تحقيق خطوات عملية في هذا الخصوص؟ بالتأكيد، لأن كل الأدوات متوافرة، والمفاهيم الإنسانية حاضرة. والأمر لا يحتاج إلا إلى البدء بالتنفيذ الفعلي وليس النظري.
إنشرها