Author

قراءة في عالم الترميش

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد
حذرت أخيرا وزارة التجارة والصناعة المواطنين من ظاهرة "الترميش"، وغيرها من أساليب الكسب السريع، كما تمت إدانة عدد من الأشخاص ممن يزاولون هذه المهنة، بمن فيهم "أبو رمش" نفسه. لا جدال حول أهمية التوعية، ولكن علينا البحث عن مسببات انتشار مثل هذه الأعمال ومعالجة المشكلة من أساسها، لا أن نكتفي بتحذير الناس والقبض على من يقوم بها. "الترميش" ليس له علاقة بغسل الأموال، كما يعتقد البعض، وذلك لأن من يرغب في غسل المال لا يلجأ إلى أعمال غير نظامية لتطهير أمواله، كون هدفه في الأساس إضفاء صبغة قانونية لما لديه من أموال. لماذا إذا يقحم نفسه في أعمال مشبوهة فيزيد الطين بلة؟ للتوضيح، إن من يقوم بغسل المال هو شخص تراكمت لديه كميات كبيرة من النقد الورقي ويبحث عن وسيلة لإدخالها في النظام المصرفي ليتمكن من الاستفادة منها بصورة نظامية، فيستطيع شراء سيارة أو منزل أو فتح مشروع تجاري وهكذا، ويتشابه الشخص "المرمش" مع غاسل المال في أن لديه القدرة على دفع مبالغ كبيرة بشكل نقدي. فغاسل المال قد يدخل في عمل غير مربح تجاريا، ويصرف أكثر مما يتسلمه من أموال، كل ذلك من أجل إدخال ما يستطيع من أموال في النظام المصرفي، حتى وإن خسر بعض الشيء. أما "المرمش" وغيره من العاملين بهذه الأساليب، فإنه يقوم كذلك بدفع أموال تتجاوز ما لديه من مال، أو على الأقل تتجاوز منطقيا ما يستطيع الحصول عليه من مال، والسبب في قيامه بممارسة هذا العمل الفاشل تجاريا يعود لكونه لا يمتلك وسيلة أخرى لجذب "المستثمرين" إلا بهذه الحيلة البسيطة. من المعروف أن الشركات التي تُصدر سندات لتمويل مشاريعها تقوم بإغراء المستثمرين بمنحهم عائدا ماليا مناسبا، يختلف مقداره وفقا لدرجة المخاطرة المحتملة. فتجد أن شركة قوية تصدر سندات بعائد 5 في المائة، بينما شركة أخرى مهزوزة ماليا قد تضطر لمنح عائد يتجاوز 15 في المائة. وهذا هو حال "المرمش"، فهو يمنح عائدا يصل أحيانا إلى 100 في المائة خلال أشهر قليلة، كون لا خيار آخر لديه غير القبول بهذا العائد المجحف له. كيف إذاً يتمكن "المرمش" من الوفاء بوعده؟ وفي المقابل كيف للشركة المصدرة للسندات الوفاء بوعدها؟ لا يوجد فارق بين الحالتين عدا في نظامية ما يقومان به من أعمال وفي مصداقية كل واحد منهما. بالنسبة للشركة فنشاطها معروف، وكيانها القانوني معروف، وسنداتها أصدرت وفقا لضوابط معينة وبإشراف حكومي. أما "المرمش"، فيفشل غالبا في كل واحدة من هذه العناصر، غير أن ذلك يتم تعويضه من خلال رفع مستوى العائد الذي يتحصل عليه الشخص المقرض. أما طبيعة عمل "المرمش" فهي متنوعة وليست غالبا احتيالية بطبيعتها، كون "المرمش" يعتقد أنه يستطيع توظيف ما يتحصل عليه من أموال في استثمارات ستدر عليه عوائد أعلى بكثير مما سيدفعه لعملائه. فقد يكون أحدهم مضاربا يخاطر في سوق الأسهم، على أمل أن يستطيع تحقيق أرباح كبيرة في فترة قصيرة فيقوم بتسديد عملائه ويحتفظ بالباقي لنفسه. وعلى الرغم من أن البداية قد يكتنفها بعض من السذاجة المالية لدى "المرمش"، إلا أنه سرعان ما يكتشف أنه لا يستطيع الوفاء بالتزاماته، فماذا عليه أن يفعل؟ ماذا على الشركة التي أصدرت سندات وحل عليها موعد الاستحقاق وضرورة دفع رأس المال للمستثمرين ولم تكن لديها أموال كافية لذلك؟ الذي يحدث هو أن تحاول الشركة إعادة جدولة مديونيتها أو تتقدم بطلب إفلاس أو تحاول ــــ إن أمكنها نظاما ــــ إصدار سندات جديدة "بعائد أعلى من السابق" وتستخدم محصلاتها لسداد ملاك السندات القديمة. هذا الحل الأخير هو بالفعل ما يقوم به "المرمش"، فتجده يبحث عن "مستثمرين" جدد، يعرض عليهم عوائد عالية "أعلى مما سبق" أو بفترة سداد أقصر مما سبق، ومن ثم يقوم بتسديد "المستثمرين" القدامى من أموال "المستثمرين" الجدد. نهاية هذه العملية معروفة، راجع مقال سابق بعنوان "الاحتيال بطريقة بونزي.. هل من توعية ومراقبة؟". ما الحل لمشكلات توظيف الأموال؟ هناك جملة من الحلول لتقليص نشاط توظيف الأموال، منها: 1. معالجة ضعف الوعي المالي لدى الأفراد، حيث للأسف لا توجد في مناهجنا الدراسية، بما في ذلك الجامعية، أي مواد علمية خاصة بالتمويل الشخصي أو المالية بشكل عام. المطلوب مادة كاملة تدرس للصف الثالث الثانوي تختص بالمال من حيث معرفة طبيعته وكيفية حساب العائد ودراسة معنى المخاطرة المالية وكيفية عمل موازنة سنوية للفرد والأسرة، وكيفية بناء الثروة وهكذا. 2. علينا ألا نتجاهل ضعف دور المؤسسات المصرفية في المملكة في سد الاحتياجات المالية للناس، حيث من الواضح أن لدينا سوقا تمويلية كبيرة خارج القطاع المصرفي، نشأت لسد هذا الفراغ التمويلي الخطير. دول كثيرة أوجدت حلولا متنوعة لمشكلة تمويل الأفراد، سواء من خلال تعديل شروط المصارف للحصول على القروض أو بإنشاء اتحادات ائتمانية أو بإنشاء مصارف تعاونية أو بأساليب التمويل المصغر. 3. على الجهات الحكومية المعنية بذل ما يلزم لاكتشاف هذه الظواهر وإيقافها قبل أن تستفحل، فيمكن التحقق من طبيعة النشاط وهل الشخص مرخص له مزاولة الأعمال المالية أم لا. ثم بالإمكان تحفيز من يبلغ عن هذه الأنشطة وتقصي ما يرد من معلومات وأخذها بجدية كاملة. علينا أن نتعلم بعض الشيء من قضية برنارد مادوف، الذي تم القبض عليه في 2008 بعد بلاغ تلقاه مكتب التحقيقات الفيدرالي من أبنائه، يشيرون فيه إلى تورط والدهم فيما عرف بعد ذلك بأكبر عملية احتيال بطريقة "بونزي" في تاريخ العالم، بخسائر تجاوزت 50 مليار دولار. الغريب في هذه القضية أن محللا ماليا من أصول يونانية اسمه هاري ماركوبولوس تولدت لديه شكوك كبيرة حول مصداقية نشاط مادوف ابتداء من عام 2001، وقام بالفعل بتوثيق ملاحظاته وإرسالها إلى هيئة الأسواق والأوراق المالية خمس مرات، آخرها في نيسان (أبريل) عام 2008. وعلى الرغم من دقة ملاحظاته واحتوائها على أدلة حسابية قوية إلا أن هيئة الأسواق لم تأخذ ملاحظاته بالجدية اللازمة. قال ماركوبولوس في شهادته أمام الكونجرس الأمريكي حول هذه القضية، إن السبب في عدم الأخذ بملاحظاته أن معظم المسؤولين في هيئة السوق من المختصين القانونيين، وقليل منهم مختصون ماليا، ما جعلهم لا يستوعبون طبيعة المشكلة وخطورتها. وعلى الرغم من كثرة الوثائق التي سلمها للهيئة إلا أنها تصب في فكرة واحدة وهي أن العائد الذي يزعم مادوف أنه يحققه للمستثمرين لا يمكن بأي حال من الأحوال تحقيقه، بناء على الأسس التي تحكم علاقة العائد بالمخاطرة.
إنشرها