Author

العقار لم يعد الابن البار

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
لن يدرك الأغلبية ما يجري في السوق العقارية من تطورات إلا بعد فوات الأوان، ولا يهم في نظر الكاتب بين شرائح تلك الأغلبية من المجتمع إلا الأفراد الباحثون عن مسكن العمر، ولهذا يحرص كثيرا على أن يكون الباحثون عن تملك مسكن أو أرض في الصورة الحقيقية، التي يكابد تجار الأراضي والعقار ومن يتكسبون منهم على إخفائها. لقد شهد العام الأخير كمًّا من القرارات والإجراءات الثقيلة الوزن، أصدرتها الدولة بمختلف أجهزتها بهدف إصلاح التشوهات الكبيرة في السوق، كان من أهمها وأكثرها تأثيرا بدء مؤسسة النقد العربي السعودي في تطبيق أنظمة التمويل مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، ثم إعلان الدولة الموافقة على فرض الرسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن والمحافظات نهاية آذار (مارس) الماضي. ومن يظن أن مثل هذه القرارات وما سيأتي من قرارات لعل من أكثرها ترقبا الإعلان عن آليات تحصيل الرسوم على الأراضي البيضاء، أؤكد أن من يظن عدم تأثيرها فأقل ما يمكن قوله عنه أنه من سيضيع في الأوهام ثروته قبل عمره! بدأت فعليا دعوات مقاطعة شراء الأراضي والعقارات في عام 2012، واحتلت موقعها المؤثر الجاذب للاهتمام المجتمعي والرسمي بدءا من الربع الأول لعام 2013، وهو الزمن الحقيقي الذي انطلقت فيه على عكس ما تروج له أبواق تجار العقار من سماسرة وكتاب تابعين لتجار الأراضي، التي جاهدت لتثبيط همم أفراد المجتمع، وأن مقاطعة الشراء لم ولن تفلح في كبح جماح الأسعار، وزاد من وطأة الضغوط على المجتمع، زيادة تدوير الأموال في السوق عبر عمليات ضخمة من المضاربات الوهمية، إلا أنه مع تصاعد قوة دعوة مقاطعة الشراء في وقت لاحق، خدمها في ذلك وسائل الاتصال الاجتماعي المعاصرة (تويتر، فيسبوك)، وانضمام وسائل الإعلام لاحقا إلى تلك الوسائل والأدوات في الأعوام التالية، الذي وفر لأفراد المجتمع قاطبة قوة تفوق بكثير كل ما يتوافر منها لدى تجار الأراضي والعقارات والتابعين لهم، وهو الحق المشروع للأفراد أن يمتلكوه، لمواجهة موجة الغلاء الخطيرة في أسعار الأراضي والعقارات، وكونهم وحدهم فقط الضحايا المتضررين منها. يكفي القول إن من أهم نتائج حملة المجتمع بإيقاف شراء الأراضي والعقارات التي بدأت منذ 2012، وأصبحت محل اهتمام الأغلبية في مطلع 2013، أنها حققت الهدفين التاليين؛ الهدف الأول: جذب اهتمام أجهزة الدولة لهذه الأزمة، واستجابتها السريعة لنداءات أفراد المجتمع، التي توالى عقبها صدور عديد من القرارات والإجراءات المعالجة لأسباب الأزمة العقارية والإسكانية، كان أثقلها وزنا وأهمها على الإطلاق ما تم اتخاذه خلال العام الأخير بدءا من منتصف 2014 حتى تاريخ اليوم. الهدف الثاني: أن الحملة نجحت في زيادة وعي أفراد المجتمع، وتدخلت في صلب قراراتهم بالشراء من عدمه، وهو ما أدى وفقا لما أظهرته وتظهره البيانات الرسمية لوزارة العدل لدخول السوق العقارية في موجة غير مسبوقة من الركود، على الرغم من توافر السيولة المحلية بصورة هائلة. مع التأكيد على أن حملة المقاطعة المجتمعية تلك لم تصل حتى إلى نصف ذروتها المأمولة، ورغم كل ذلك فقد تركت آثارها المحمودة على تعاملات السوق العقارية، سواء عبر خفض قيم الصفقات، أو عبر تأثيرها في الأسعار. لك أن تتخيل في الوقت الراهن؛ ماذا لو لم تنتشر حملة مقاطعة شراء الأراضي والعقارات خلال الأعوام الأخيرة؟ أترك الإجابة للقراء الكرام على اختلاف توجهاتهم. لقد وصل إجمالي قيمة صفقات السوق العقارية (سكني، تجاري) حتى نهاية الخميس الماضي 14 أيار (مايو) إلى 149.4 مليار ريال، وهو الرقم الأدنى من الفترة المماثلة نفسها تماما لعام 2014 البالغة 188.5 مليار ريال بنسبة انخفاض 20.7 في المائة، وأدنى بنسبة 19.6 في المائة للفترة نفسها من عام 2013 البالغة 185.8 مليار ريال. كما انخفض عدد العقارات المبيعة للفترة نفسها من عام 2015 إلى 121.3 ألف عقار مبيع، مقارنة بنحو 139.3 ألف عقار عن عام 2014 (نسبة انخفاض13.0 في المائة)، ومقارنة بنحو 151.3 ألف عقار عن عام 2013 (نسبة انخفاض 19.8 في المائة)، وهو ما جرى كذلك بالنسبة لأعداد الصفقات، التي سجلت انخفاضا عن عام 2015 بنسبة 13.5 في المائة مقارنة بعام 2014، ونسبة انخفاض أكبر بلغت 18.3 في المائة مقارنة بعام 2013. وبالنسبة للأسعار، فحسبما تبينه إحصاءات وزارة العدل التي تنشرها صحيفة "الاقتصادية" أسبوعيا، سجلت حتى آخر بياناتها المنشورة انخفاضات وصلت إلى 30.0 في المائة كمتوسط نسبة انخفاض، وتظل نسبة انخفاض متدنية جدا مقارنة بموجة التضخم الهائلة في الأسعار، التي وصلت إلى أكثر من ثمانية أضعاف مستوياتها قبل نحو عقد من الزمن! والأمل معقود بإذن الله أن تستمر الأسعار في الهبوط بنسب أكبر خلال الفترة المقبلة، مستفيدة بالدرجة الأولى من نتائج القرارات والإجراءات التي تحملتها أجهزة الدولة، وتسعى من خلالها جاهدة إلى القضاء على أسباب الأزمة العقارية والإسكانية المفتعلة من رأسها إلى أخمص قدميها. باختصار؛ لم يعد العقار ذلك الابن البار بأهله، والعاق الشاق للاقتصاد الوطني والمجتمع، فقد بدأ فعليا تقليم مخالب قواه النافذة، والوقت وحده كفيل بتأكيد ذلك التحول الكبير والمهم في هذا الخصوص، ليس لدى أفراد المجتمع، بل لمن ما زال يروج لأوهام استمرار ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات، إما عن جهل منه وإما لتعارضه مع مصالحه الضيقة جدا، على أن مسألة قناعة هذه الشريحة من أطراف السوق العقارية من عدمها، لا تعد ذات أهمية تذكر في هذا المقام، بقدر ما أن الأهمية هنا تذهب إلى أفراد المجتمع، كونهم هم وحدهم المستهدفين بكسب ثمار نتائج إصلاح الدولة لتشوهات السوق العقارية والإسكانية، وكونهم هم وحدهم من تلظى بنار تضخم الأسعار العقارية. إننا على موعد قريب من اكتمال جني ثمار جهود عملاقة تحملها أفراد المجتمع السعودي طوال الأعوام الثلاثة الماضية، تستحق أن تدون في التجارب الاقتصادية المعاصرة، وكيف أنها بفضل الله اكتسبت الاحترام والتقدير والقوة، كان من أهم ثمارها التي أصبحت في يد كل مواطن ومواطنة التحرك الجاد من قبل الدولة أيدها الله، بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإصلاح الخلل الخطير الذي ضرب بآثاره المدمرة مقدرات البلاد والعباد، فمزيدا من الحزم والعزم من الدولة والمجتمع في هذا الاتجاه، ثم يكتمل بحول الله معهما جني الثمار كاملة لا نقصان فيها. والله ولي التوفيق.
إنشرها