Author

«داعش» انتخابي في بريطانيا

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"أي عشريني ليس ليبراليا لا يملك قلبا. أي أربعيني ليس محافظا لا يملك عقلا". ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا الراحل ما حدث في بريطانيا ليس جولة انتخابات عامة تقليدية، تتنافس فيها أحزاب رئيسة، هي في الواقع حزبان، إلى جانب أحزاب أخرى لم ترق إلى توصيف الرئيسة. الذي حدث، كان "مجزرة" انتخابية نالت من الجميع تقريبا، بما في ذلك حزب المحافظين الذي فاز فيها بأغلبية، ولكن ليست مريحة. ولو استعرنا أفعال تنظيم "داعش" الإرهابي المجرم، فما حدث في بريطانيا "داعش انتخابي"، قضى على من كان يعتقد أنه لا يقضى عليه، وغَيَّر الخريطة الانتخابية في المملكة المتحدة لجيل أو جيلين مقبلين. الخاسرون والفائزون وقفوا بذهول أمام نتائج هذه الانتخابات. فمن كان يتوقع أن يصبح رئيسا للوزراء (غدا)، صار (غدا) مستقيلا من زعامة حزبه. ومن كان يعتقد أنه سيضيف مقعدا جديدا لحزبه، بات يحصي المقاعد التي خسرها. لم تكن النتائج "غربلة"، بل كانت "مجزرة" انتخابية تاريخية. هذه "المجزرة" قذفت بثلاثة زعماء لثلاثة أحزاب خارج مواقعهم القيادية. ودفعت بحزب اسكتلندي قبل الانتخابات صغير التمثيل ليحتل المركز الثالث في تراتبية الأحزاب في كل البلاد. والحزب (الديمقراطي الليبرالي) الذي احتل المركز الثالث عقودا طويلة، صار في مهب الريح. كانت خسارته دامية عنيفة، بل وحشية. حتى حزب الاستقلال الذي يعادي وجود بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، نالت الخسارة منه، حيث خسر زعيمه في دائرته الانتخابية، ليعلن استقالته من زعامة الحزب، كانت كل التوقعات تشير إلى أنه سيحقق شيئا واضحا في هذه الانتخابات. لم يكن هناك حزب محصن. كانت كل الاحتمالات واردة. ولم يعكس أي استطلاع للرأي جرى قبل الانتخابات، حقيقة ما جرى بعدها.. إنها ضربة حتى لمراكز ومكاتب الاستطلاعات أيضا. تماما كما حدث مع وكالات التصنيف العالمية الكبرى في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. خسر حزب العمال "الحزب الثاني في البلاد" كل وجوده تقريبا في اسكتلندا، التي كانت تاريخيا حصنا منيعا له، وساحة هشة إلى ما لا نهاية لحزب المحافظين. مهلا، الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. لقد خسر زعيم حزب العمال الاسكتلندي نفسه مقعده في هذه الانتخابات! وإذا كان حزب العمال يمكنه على الأقل "لعق جراحه"، فحزب الديمقراطيين الأحرار أصيب إلى درجة لا يقوى حتى على القيام بذلك. لقد تساقط وزراء منه كانوا في الحكومة البريطانية الواحد تلو الآخر، ولم يتمكنوا حتى من الاحتفاظ بمقاعدهم البرلمانية. وإذا كنا نبحث عن شيء مؤكد قبل الانتخابات، فليس هناك سوى نتائج ما يعرف بـ"نتائج أصوات الخارجين من مكاتب التصويت" أو بالإنجليزية Exit Poll. كانت هذه النتائج قريبة من تلك النهائية بصورة تدعو إلى الإعجاب. لم ينتظر قادة الأحزاب المحطة حتى إتمام إحصاء كل الأصوات في المملكة المتحدة ليستقيلوا. لقد استقالوا فيما لا يزال الإحصاء ساريا! وحتى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، لم ينتظر إحصاء آخر دائرتين أو ثلاث، ليذهب إلى قصر "باكنجهام" كي يتلقى تكليفا من الملكة إليزابيث الثانية لتشكيل الحكومة. قفز إلى سيارته الرسمية طالبا من سائقه التوجه إلى الملكة. ولو كانت السيارة "معطلة"، ربما لم يتردد في الوصول إلى القصر بتاكسي! كان كاميرون الفائز بأغلبية غير مريحة، مصدوما كما كل بريطانيا بالنتائج. بعض المقربين منه سربوا أنه كان يعد نفسه قبل ساعات من انتهاء الانتخابات لاحتمال الخروج من "داوننيج ستريت" إلى الملكة بل إلى الأبد. كان يقود حكومة برأس ونصف. صار الآن قائدا لها برأس واحد، هو رأسه. هناك أسباب كثيرة لحدوث هذه "المجزرة"، لكن السمة العامة تكمن في أن من اقترب من المحافظين احترق، غير أن المحافظين أنفسهم نجوا من اللهب. حزب الديمقراطيين الأحرار أقدم على حكومة ائتلافية معهم، بعد انتخابات 2010 رغم معارضة القاعدة العريضة للحزب هذه. قيادة الحزب رأت أن ذلك يمثل مصلحة عامة وكذلك حزبية خاصة. ورغم أن اقتراب حزب العمال من المحافظين في مسألة الإبقاء على اسكتلندا ضمن المملكة المتحدة هو أمر وطني خالص، إلا أن الحريق نال من الحزب في الإقليم المذكور. يضاف إلى ذلك أن قيادة العمال بزعامة إيد مليباند، نقلت الحزب على مدة خمس سنوات من المنتصف إلى الطريق اليساري الوعر. ضربها حنين إلى "كوكتيل" سياسي، تناقص عدد الذين "يشربونه" بصورة لا تحتاج إلى دراسة. الخريطة السياسية في بريطانيا تشكلت فعلا (على الأقل لعقد من الزمن)، بأدوات"درامية" صرفة. لن تنفع علامات الذهول، ولا إشارات الصدمة، ولا العيون المحدقة. علما بأن مهمة المنتصر كاميرون لن تكون سهلة في السنوات الخمس المقبلة. عليه أن يتحرك ويتفقد خلفه دائما. سيكون أمام القادة الجدد للأحزاب الجريحة، مهمات أكثر من صعبة وأقل من مستحيلة. ولا يملكون حاليا وعلى مدى السنوات المقبلة سوى الزمن لتضميد الجراح، والانطلاق لآفاق أخرى، لا تشبه التي كانت قبل ليلة الانتخابات العامة.
إنشرها