Author

صحة المجتمع وصحة الشركة

|
كانت الفكرة السائدة في السبعينيات أنه كلما زاد حجم الشركة وامتداد عملياتها أصبحت أكثر جاذبية للموظفين، حيث كانت هذه الشركات تعرض وظائف برواتب مجزية وكذلك مزايا وظيفية أخرى مثل جودة التأمين الصحي المقدم للموظف، ما أدى إلى تعزيز النظرة بأن الشركات الكبيرة هي الأفضل للمجتمعات المحلية. أخيرا أظهرت دراسة حديثة أجريت على 3060 مقاطعة في الولايات المتحدة أن تركيز الشركات الصغيرة المحلية في تلك المقاطعات يؤدي إلى تحسين الأوضاع المعيشية، حيث يلاحظ تراجع معدل الوفيات المسجلة، وكذلك تحسن بالصحة العامة بما في ذلك تراجع معدلات الإصابة بالسمنة وداء السكري. ينصب التركيز الأساسي لعديد من المناقشات والندوات على التنمية الاقتصادية ومعدلات التوظيف للمنشآت الصغيرة، إلا أنها دوما تغفل عن استعراض الجانب التنموي أو بناء المجتمعات المحلية لتلك المنشآت. ويلجأ علماء الاجتماع المعاصرون إلى تبني فرضية أساسية عند الحديث عن تأثير الشركات الصغيرة على الصحة العامة، مفادها أن الاستثمارات الكبيرة للشركات الصغيرة، مقارنة بحجمها في مجتمعاتها المحلية، يجعلها تدرك تماما المخاطر المترتبة على سوء إدارتها لعلاقاتها مع موظفيها، وعملائها، وكذلك السكان المحليون بشكل أكبر من الشركات الكبيرة، وهذه الفرضية تدعمها أبحاث جامعة لويزيانا، التي خلصت إلى أن نسبة الأعمال الصغيرة في مجتمع ما تتناسب طرديا مع الصحة العامة للمجتمع. كما أنه من الملاحظ أن الشركات الصغيرة أكثر قدرة على حل مشكلاتها داخليا دون اللجوء إلى مصادر خارجية لحل تلك المشكلات، ما يكسبها صبغة محلية، وبالتالي يكون المجتمع المحلي دوما متحكما في مصيره، بمعنى أن القرارات التي تأخذها تلك المنشآت الصغيرة في مجموعها تؤثر في مجتمعاتها المحيطة بشكل مباشر. فيكون الاعتماد على المجتمع كمصدر أساسي وعمود فقري لنجاح عملياتها، وبالتالي فإن حرصها على سلامة مجتمعها له علاقة مباشرة بنجاحها واستمرارها. بينما تتجه الشركات الكبيرة دوما إلى الاعتماد على المصادر الخارجية لحل مشكلاتها، وغالبا ما تلجأ إلى حلول جذرية تؤثر سلبا في المجتمعات المحلية كتقليص حجم عملياتها وخفض عدد موظفيها، كما أنها أصبحت تتجه إلى استقطاب العمالة من الأسواق الخارجية، التي تتوافر فيها العمالة الأرخص وإحالة عديد من موظفيها بدوام كامل إلى بند المتعاقدين، حتى يتسنى للشركة التخلص من الموظف فور انتهاء مهامه، وكذلك كي لا تضطر الشركة إلى دفع المزايا الوظيفية الأخرى. أضف إلى ذلك الوجود المتزايد لتلك الشركات في عديد من البلدان التي تتوافر فيها الخصومات الضريبية الكبيرة أو أي مزايا أخرى تؤدي في المحصلة إلى تقليل تكلفتها التشغيلية، وبالتالي التأثير بشكل مباشر في مستوى أرباحها على حساب مجتمعاتها. كل تلك العوامل وغيرها من التوجهات الحديثة للشركات الكبيرة أدت إلى نشوء حالة من عدم الاستقرار أصبح يشعر بها عديد من موظفي تلك الشركات يؤدي بلا شك إلى زيادة معدلات انتشار عديد من الأمراض المزمنة مثل ضغط الدم والسكري، حسب عديد من الدراسات، ومن هنا يمكن استنباط الرابط بين الممارسات الحديثة لتلك الشركات والصحة العامة لمجتمعاتها المحيطة. وليس هذا المقال أو غيره يوجه رسالة إلى الشركات الكبيرة بأن تقلص من حجم عملياتها أو أن تحجم عن خططها التوسعية من أجل صحة مجتمعاتها المحلية، بل هو تأكيد لمبدأ راسخ أن صحة الشركة لا يمكن أن تكون إلا بصحة مجتمعها.
إنشرها