ثقافة وفنون

«أناس الطيور».. محاولة التحليق بعيدا عن القيود

«أناس الطيور».. محاولة التحليق بعيدا عن القيود

«أناس الطيور».. محاولة التحليق بعيدا عن القيود

محاولة التملص من القيود التي تكبّل الإنسان، هو أهم ما يحاول الإنسان المعاصر القيام به. وهو ما يجعلك تعفو لشخصية جاري نيومان رغبته المفاجئة في ترك عمله الكاتم على أنفاسه، وزواجه الكئيب وجميع ارتباطاته في أمريكا، ليقرر البقاء في فرنسا، للبحث عن حلم جديد والتغاضي عن استنكار وبهتان كل المحيطين به. هو طائر قرر التحليق خارج سربه بغتة. حين تقرأ عنوان فيلم كـ "أناس الطيور" لعام 2014، الذي تجاوز الساعتين، وامتاز بتخلله لغتي الإنجليزية والفرنسية، يخال لك أنه يرمز إلى أولئك الذين ينفردون بمحاولة التحليق في السماء أو التغريد بعيدا عن المتوقع منهم كشخصية الأمريكي جاري، أو الطالبة الفرنسية أودري التي تعمل بملل كخادمة في أحد الفنادق وتهفو للهروب من واقعها. لكن المخرجة الفرنسية باسكال فيران حاولت الخروج عن النسق التقليدي والانتقال المفاجئ من فيلم درامي واقعي لشخص فاضت به الحياة، إلى تيار آخر شديد الرمزية. حيث يباغتك مشهد غريب، عند اقتراب الفيلم من نهايته دون أي تمهيد، حيث تستحيل أودري من بطلة ميئوس منها إلى طائر صغير، إثر انقطاع مفاجئ للكهرباء. يبدأ الطائر بتحليق مفاجئ بانتشاء، يخرج من طيات النسق الدرامي الواقعي المتوقع ليتسبب في إرباك عجيب للمشاهد. هي فرصة نزقة لاستغلال القدرة المفاجئة للتخفي والتطفل على حيوات الآخرين، وبالأخص من تشعر أودري برغبة حقيقة للتعرف عليهم من كثب، كجارها الياباني، أو نزيل الفندق الأمريكي الذي قرر بغتة أن تطول فترة مكوثه في فرنسا. فكرة المخرجة فيران تقحم الرمزية لتمزج قصة شخصيتين إحداهما واقعية لرجل أمريكي يرمز إلى الحياة العملية المجهدة التي يمتاز بها النظام الرأسمالي تتسبب بإنهاك رجل في منتصف عمره، هو جاري نيومان، الذي برع في تأدية دوره الممثل جوش تشارلز، حيث قرر هجر كل شيء وراءه، لتصبح هناك نقطة تحول مفصلية في حياته، وأخرى هي أودري بأداء أنيس ديموستيير، تمثل الجانب الفرنسي من الحياة، حيث هي قد وصلت إلى مرحلة عدمية تتململ ما بين طالبة جامعية أو مدبرة في إحدى الفنادق، هي رمز للحياة الفرنسية التي تعيش غير مكترثة للحياة المادية، مستمتعة بكل لحظة تتمكن فيها من مراقبة الآخرين وتحليل شخصياتهم ومسالك حياتهم. "لقد جنّ الجميع، يجرون في كل مكان كأرانب قد قطعت رؤوسهم." يردّد جاري وهو يتحدث بالهاتف في مطار باريس. تتكرر مشاهد انتقاد جاري للوضع الذي يعيشه، وكل ما حوله، في الآن ذاته الذي تتعمد فيه باسكال اختيار المكان ما بين قطار ومطار وفندق، أي أماكن مؤقتة تجمع أجناسا مختلفة في مراحل انتقالية في حياتهم، فجميع الشخوص أمام نقطة تحول. وكل من جاري وأودري يعانيان رغبة معلنة في الوحدة. جاري قد اختار محادثة الآخرين بالهاتف وعدم مقابلتهم وجها لوجه، بل إنه قد فضّل مجابهة زوجته وإخبارها بقراره هجرها عبر السكايب في محادثة مثيرة للاستنكار. في الحين الذي تحادث فيه أودري والدها عبر الهاتف قبل أن يتعالى صوتها هي الأخرى لتجادله عبر تفاصيل ثانوية. تظهر زوجة جاري ووالد أودري كذلك الصوت الذي يلوم الشخصيات المحورية، ويحاول قذف كل أصابع الاتهام بالإهمال والتقصير أو اللامبالاة. كلاهما لا يشعر بالراحة إلا عبر التحرر من العناء والثقل الذي يكتم على أنفاسهما من مسؤوليات أو توقعات وأنظار ملتفتة إليهما. #2# الجميل في فيلم "أناس الطيور" هو اختيار النسق الدرامي، والألوان الهادئة الأقرب للواقعية، في حين ترتدي فيه الشخصيات ألوانا قاتمة تعكس الحالة النفسية الكئيبة لهم. كما يحاول الفيلم وضع نظرة شمولية حيث يتم صهر الشخصيات المحورية في بوتقة عالم أوحد، تتقرب فيه الكاميرا لتصور وجوه الجالسين في القطار، بل وتتغلغل إلى أعماقهم فتعكس الأفكار التي تراودهم. كما تتوجه الكاميرا إلى المطار لتصور الأجساد المنهكة التي تنتظر تلك الرحلات التي تم تأخيرها. مما يؤخذ على المخرجة الفرنسية في فيلمها الأخير، هو إرباكها للنص من خلال مزجها للنسق الواقعي مع آخر رمزي يظهر وكأن هناك إقحام لهما بأسلوب يبتعد عن الانسيابية. كما يظهر خروج مفاجئ عن النسق، كظهور صوت مفاجئ لراو يشرح الحالة النفسية لجاري وهو يقرر هجر حياته في أمريكا. أو صوت مونولوج داخلي لأودري بعد أن استحالت طائرا مرتبكا يحاول التحليق. ويتخلل ذلك مشاهد عجيبة كطيران العصفور داخل الفندق ومباغتته بقط وكلب يتعاركان. يظل هناك ضياع للمفاهيم يتسبب فيه اختلاف الثقافات، كتساؤلات الأمريكي جاري عن اللغة الفرنسية التي يهواها ويمقت طرقها الملتوية في اختيار الكلمات ومعانيها البعيدة عن اللغة الإنجليزية العملية. إلا أنه لا يختلف كثيرا عن أودري في بحثه عن محاولة التملص من تلك القيود والتحليق بعيدا عن كل ما يجثم على أنفاسه. *كاتبة وروائية سعودية
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون