Author

المسؤول الحكومي.. والانتفاخ البيروقراطي

|
تعاني الإدارة العامة المعنية برعاية مصالح العموم الترهل والتضخم وبطء الأداء وعدم الاستجابة لاحتياجات الناس بكفاءة وفاعلية. هذه حقيقة يحسها المواطن في تعاملاته مع أكثر الأجهزة الحكومية ويكابدها يوميا من سوء تنفيذ بعض المشاريع والخدمات العامة في داخل المدن وخارجها. ومع أن هناك إنفاقا سخيا من الدولة، إلا أن مستوى الأداء الحكومي لا يتناسب مع حجمه! ويبرز هنا تساؤل مهم: لماذا هذا التناقض؟ يقود لتساؤل آخر: هل المزيد من المخصصات المالية يكفي لتحسين أداء الأجهزة الحكومية؟ بالطبع لا، ولو كان كذلك لكنا على رأس قائمة أفضل عشر دول في العالم. بل إن المشكلة في الميزانيات الضخمة التي تمنحنا شعورا بالرضا والإنجاز الوهمي، فيكون تركيزنا على المخصصات المالية دون النظر للتأثير النهائي لهذه المدخلات. وما يعزز ذلك انتهاج الدولة ميزانية البنود التي لا تربط بين ما يخصص من موارد وأثرها النهائي في المجتمع. ولا غرابة في ذلك، فإن إقرار المشاريع والبرامج الحكومية لا يُبنى على تقويم البرامج ومعرفة المنافع المتوخاة مقارنة بالتكاليف، وإنما يعتمد على التقديرات الشخصية للمسؤولين البيروقراطيين في الأجهزة الحكومة ووزارة المالية. وهذا نابع في الأصل من قصور في فهم دور الإدارة الحكومية في المجتمع. فالمفهوم السائد لدى العموم وحتى المسؤولين أن الحكومة تعطي والمواطن يأخذ بعلاقة فوقية وليس ندية. وربما برر ذلك بالاعتماد الكبير على البيروقراطيات العامة في عملية صنع القرار دون رقابة شعبية. هذا إضافة إلى المركزية الشديدة التي تسلب الهيئات المحلية على مستوى المناطق والمحافظات القدرة على إدارة التنمية المحلية. إن ضعف المجالس النيابية سواء مجلس الشورى أو مجالس المناطق والمحافظات والبلديات، جعل البيروقراطيين يعتمدون على المعايير الفنية البيروقراطية في عملية صنع القرار، وربما أوجد ذلك فجوة بين الاحتياجات الفعلية للسكان وما تقدمه تلك البيروقراطيات من خدمات. لم يعد كافيا توفير الخدمات وحسب، ولكن يجب إضافة إلى الاستجابة لمطالب المواطنين أن تسهم المشاريع والبرامج الحكومية في تحقيق استراتجيات التنمية الوطنية. فبناء طريق أو تقديم خدمة صحية أو أية خدمة عامة أو مشروع يلزم أن يفاضل فيما بينها على أساس أولويات اجتماعية، ومن ثم حصر البدائل المتاحة لطريقة تنفيذها، واختيار المشروع أو البرنامج الذي يعظم المنافع الاجتماعية والاقتصادية بأقل تكلفة. لكن ما يحدث اليوم هو عمل دون خطط وإعداد للمستقبل، وإنما ردود أفعال آنية تجاه قضايا اجتماعية واقتصادية وكأنما ظهرت فجأة لتخل توازننا ونشتغل بمواجهتها على حساب الاستثمار في المستقبل، لنبقى في الدائرة ذاتها ندور في المكان ذاته تلاحقنا المشكلات دون أن نعمل على الوقاية منها ونعالجها جذريا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن التغيرات من حولنا تحدث تدريجيا دون أن نشعر بها، خاصة في ظل اقتصاد ريعي توهمنا عائداته المجزية بصحة الاقتصاد وسلامة العمل الإداري. إذ إن هذه العوائد المالية تغطي في كثير من الأحيان السوأة الإدارية وتمنحنا شعورا بأن كل شيء يسير على ما يرام. ولكن الفساد الإداري في كثير من الأحيان خفي ينخر في العمل الإداري الحكومي تارة بسبب التنفيذ الشكلي والورقي للإجراءات النظامية، وتارة أخرى بتعطيل النظام بالاستثناءات التي أصبحت هي القاعدة. هناك تغيرات كثيرة يمر بها المجتمع، تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسكانية وحضرية، ويجب أن تكون الأجهزة الحكومية واعية ومدركة لهذه التغيرات وتعمل على احتوائها والتكيف معها. إلا أن هذا قد يكون بعيد المنال لأن التنظيمات البيروقراطية بطبيعتها المغلقة تعجز عن إدراكها بسبب انكفائها على نفسها وانشغالها بتحقيق أهدافها التنظيمية التي ربما لم تعد مناسبة للأوضاع المستجدة. هذا التمسك الشديد للبيروقراطيات بالنمط المعتاد يجعل نظرتها للأمور قاصرة واهتماماتها تدور في دائرة ضيقة تحجب عنها رؤية المصالح العليا للوطن، وتكون النتيجة مشاريع وخدمات باهظة التكاليف ولكن غير مطلوبة اجتماعيا أو منخفضة المنفعة محدودة التأثير. ولافتقاد التنظيمات البيروقراطية القدرة على آلية التعلم التنظيمي وبناء الخبرات، ستظل تعاني الضبابية في الرؤية والبطء في الأداء، ولن يكون بمقدورها الإسهام في تنمية المجتمع والتحول به إلى مستويات أعلى من التحضر الاجتماعي والتطور الاقتصادي والصناعي. إن تمتع البيروقراطيات بالحصانة من المساءلة النيابية يجعل المسؤول الحكومي يقبع في منطقة الراحة دون ضغوط تذكر تدفعه نحو عمل الأفضل، وتحثه على البحث عن حلول جديدة ومبتكرة تقود نحو زيادة وتحسين الإنتاجية. هذا الضعف في الأداء يترجم إلى شح في الخدمات العامة كمّا ونوعا وجودة، وبالتالي تجعل المواطن في وضع حرج يستجدي الخدمة العامة ويبحث عن شفاعة ليحصل عليها، وقد كان من المفترض أن تصله بسهولة دون عناء أو منة كحق مكتسب. لكن استجداء المواطن للخدمة يمنح المسؤول الحكومي شعورا بالفوقية والزهو والمكانة الاجتماعية، ويجعله ينسى أو يتناسى في ظل الانتفاخ البيروقراطي أنه في خدمة العموم. إن العمل من أجل العمل دون ربط الجهود في الأجهزة الحكومية بالمقاصد الوطنية العليا وتحقيق رضا المواطن لم يعد مقبولا ولا يؤدي إلى الإنتاجية. هناك كثيرون ممن يعملون من أجل الراتب أو المكانة أو الوجاهة وليس لخدمة العموم واستيفاء احتياجاتهم وتحقيق المصلحة العامة. وهذه مصيبة تصيب التنمية الوطنية، بل حتى استقرارنا في مقتل. ولذا فقد أصبح الإصلاح الإداري مطلبا ملحا ليس من الناحية التنمية الاقتصادية، بل في تعزيز الأمن الوطني. ومقياس تحقيق الإصلاح الإداري هو عندما تنظر الأجهزة الحكومية للمراجع كعميل تسعى لرضاه. بعض المسؤولين ممن يضيف لهم الكرسي ولا يضيفون إليه ينغمسون في العمل الروتيني على حساب التطوير الاستراتيجي، ويخيل لهم أن الانتفاخ البيروقراطي عافية إدارية. الرشاقة التنظيمية أمر في غاية الأهمية في ظل بيئة تتصف بالتغير السريع وتستلزم سرعة الاستجابة لمتطلبات المواطنين التي ارتفع سقفها. وهنا لا بد من التحول من أن المواطن يبحث عن الخدمة إلى أن الخدمة تبحث عن المواطن.
إنشرها