Author

فصل الموظفين ورغبات الجماهير

|
من الضروري معاقبة المتقاعسين والمهملين بعقوبات قد تصل ــــ في حدها الأقصى ــــ إلى الفصل المؤثر والسريع وربما المقاضاة كذلك. وذلك ببساطة لأن فكرة "الاستقرار" الوظيفي التي تحولت لدينا إلى "الالتصاق" الوظيفي تؤثر سلبيا في جودة وكفاءة أداء الموظفين، في الجهات الحكومية تحديدا وبعض الجهات الخاصة كذلك. لكن سابقة هيئة الطيران المدني الأخيرة، التي أعلنها رئيس هيئة الطيران المدني على القنوات التلفزيونية كانت سريعة جدا، إذ تفاعل بصرامة واضحة وأعلن فصل خمسة موظفين بعد حادثة رمي الحقائب التي أثارتها وسائل التواصل الاجتماعي. وبما أن الرئيس استغل الموقف وذكّر خلال اللقاء بمنح رخصة المناولة الأرضية الثانية إلى الشركة السويسرية المعروفة "سويس بورت" ما سيرفع من مستوى الخدمات المقدمة، فهل سيقوم بفصل موظفيها كذلك إذا قاموا بالتقصير في أعمالهم؟! أعتقد أن تفاعل هيئة الطيران المدني مع الحادثة غير موفق، ولا يبشر بتطور تسيير الأعمال اللوجستية في قطاع الطيران المحلي بما يرضي طموحات المستفيدين؛ وهو في الوقت نفسه يوضح لنا تعارض المصالح والمهام التي تحدثت عنها سابقا والموجودة لدى معظم الجهات التنظيمية والإشرافية في المملكة. فصل الموظفين نتيجة طبيعية لدورة كاملة من التهيئة والتدريب والرقابة والتحفيز والإنذار، وفي حالة غياب هذه العناصر يتحول الفصل إلى ظلم صريح وتضحية بالثروات البشرية يكون المتسبب الرئيس فيها صانع القرار الذي لم يتمكن من القيام بجميع المهام المطلوبة منه في الوقت الملائم. واستبيانا لهذه القضية المحورية التي طرحت على الملأ أطرح هنا مجموعة من التساؤلات. هي فرصة جيدة لفهم المزيد، فالقضية تجاذب عدة جوانب مهمة كالثقافة المهنية وحقوق الموظفين وتطلعات العملاء وآليات الحوكمة والتنافسية والخصخصة وجودة الأداء. أولا، تمثل رغبات الجماهير، بما فيهم جمهور المستفيدين من خدمات المنظمة، أحد أهم ضوابط الحوكمة المؤثرة في الأداء. تفاعل المنظمة مع الجمهور يدل على فاعلية العلاقة، بينما تجاهلها يعني تدهور بنية الضبط والتأثير الذي تقوم به الحوكمة. وفي حالة حادثة موظفي الحقائب كان التفاعل سريعا وحدث خلال ثلاثة أيام عمل فقط، وهذا أمر إيجابي. ولكن طبيعة التفاعل أيضا مهمة ومداه مهم كذلك "ثلاثة محاور هنا: طبيعة التفاعل، سرعته، ومداه". فهل فصل الموظفين والتصريحات الإعلامية المرافقة للفصل من التفاعلات الإيجابية المطلوبة؟ هل كانت هناك فسحة لتفاعلات إيجابية أفضل؟ ما تأثير ذلك في الموظفين السعوديين والمقيمين، وكم من الناس ـــ الجماهير ــــ يعتقدون أن القرار سيصنع الفارق مستقبلا؟ هل سيجعل بقية الموظفين يعتبرون منه وترتفع بالتالي جودة أدائهم؟! ثانيا، من الأكيد أن معايير الطيران المدني لا تقبل هذه السلوكيات التي تفتقد الاعتناء اللازم بالحقائب أثناء نقلها، ومن الأكيد أيضا أنها لا تقبل مثلها عند التعامل مع الركاب كذلك. هل يملك الطيران المدني من الأدوات ما يضمن به حقوق الركاب وبالحزم والصرامة نفسها يعاقب به الموظفين والجهات التي لا تقدم هذا القدر من العناية؟ الكل يعرف ما يعانيه الكثيرون عند التعامل في صالات مطاراتنا ولا نسمع دوما القدر نفسه من التفاعل معهم. هذا يعيدنا أيضا إلى نقطة البداية، إذا لم تستطع حل مشكلة الاعتناء بالركاب والحصول على رضاهم أثناء مباشرة التعامل معهم، فكيف تقوم بفصل موظفين لأنهم أساءوا التعامل مع الحقائب فقط؟ أم أن الطيران المدني ينوي فعليا فصل كل موظف يخرج عن إطار السلوك المقبول عند خدمة العملاء وسيتفاعل بالسرعة ذاتها مع ذلك؟ الإجابة هنا تحدد فحوى قرارات الفصل وما إذا كان المفصولون ضحايا لعملية سريعة لحفظ ماء الوجه. ثالثا، خرجت الشركة السعودية للخدمات الأرضية إثر اندماج ثلاث مؤسسات، اثنتان منها خاصة والثالثة وحدة استراتيجية للخطوط السعودية. يخضع هذا الكيان الذي بدأ العمل في 2011 إلى تنظيم وإشراف الهيئة العامة للطيران المدني، وهو كيان حيوي جدا إذ يسيطر على الخدمات اللوجستية في أهم وأضخم قطاعات النقل في المملكة، ويوظف عددا ضخما يبلغ أكثر من عشرة آلاف موظف قابل للمضاعفة مع المطارات الجديدة. السؤال: إذا خالف موظفو هذا الكيان معايير العمل في المطارات السعودية، فلماذا لا يخالف الطيران المدني هذا الكيان مباشرة ويعلن عن عقوبات موجهة لشخصية الكيان الاعتبارية ــــ أي الشركة السعودية للخدمات الأرضية؟ حتى لو افترضنا أن قرارات الفصل خرجت بعد خضوع الحادثة لما تحتاج إليه من التحقيقات والاستجوابات، ومقارنة الإجراءات النظامية بسجلات التنفيذ والعمليات، ومراجعة تبعات القرار قانونيا ونظاميا "كل هذا خلال ثلاثة أيام عمل فقط!"، فإن السؤال يظل قائما: أين إدارة الشركة من تصريحات الفصل؟، هل يمثل الطيران المدني إدارة الشركة هنا؟ هل الشركة راضية عن الفصل ومؤيدة له؟ كيف سيستمر هذا الوضع بعد منح المزيد من الرخص للشركات الأخرى؟ وهل سيقوم الطيران المدني بالدور نفسه معهما أيضا "كالشركة السويسرية مثلا"؟ ما موقف الطيران المدني أمام المواطن من هذه الشركات؟ هل هو عين المواطن الإشرافية والرقابية أم هو إدارة الشركة التي تراقب نفسها؟ لا يبدأ التفاعل مع رغبات الجماهير بفصل الموظفين، وإنما يكون أساسا بضبط أداء المنظمة ليوافق تطلعات هذه الجماهير. إذ يبدأ التفاعل من التخطيط الجيد والإجراءات الفعالة واستخدام المحفزات والعقوبات العادلة التي تحافظ على الروح الإيجابية والحضور الإيجابي المقنع، وهذا نتيجة للأدوار التنظيمية والإشرافية وفاعليتها. من دون هذه الأدوار يصبح فصل الموظفين مجرد حل مؤقت ينتهي تأثيره في لمح البصر ــــ التأثير الذي لا يصل أصلا إلا لفئة محدودة من الجماهير ــــ باستثناء ما يحدث للمفصول نفسه من آثار لا يتسع لها المقال.
إنشرها