Author

لمن الحسم .. عزم الحكومة أم أحلام تجار الأراضي؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
ترى كم تقدر مساحة وقيمة الثروة العقارية من الأراضي البيضاء في السعودية بأرقام اليوم؟ بالرجوع إلى عديد من المصادر الرسمية (وزارة البلدية والشؤون القروية، وزارة العدل، أمانات مناطق المدن الرئيسة)، تقدر مساحات تلك الأراضي بنحو 5.3 مليار متر مربع، تتأرجح نسبة الأراضي المطورة منها بين 42 في المائة (الرياض) إلى نحو 74 في المائة (جدة)، أي أن النسبة المتوسطة لتلك الأراضي المطورة على مستوى السعودية لا تقل عن نصف تلك المساحات من الأراضي البيضاء! وبنسبة ذلك الجزء من الأراضي المطورة حسب كل مدينة من المدن الرئيسة؛ فأنت ستكون بمواجهة مساحات من الأراضي تفوق مساحات تلك المدن دون استثناء! أما بالنسبة لقيمة تلك الثروات من الأراضي البيضاء، فوفقا لمستوى الأسعار السوقية حتى نهاية 2014، فإنها تقدر بأعلى من 7.9 تريليون ريال وفقا للتقديرات المتحفظة جدا، مقارنة ببعض التقديرات التي تذهب بها إلى أعلى من 9.0 تريليون ريال! وبموجب الرقم الأول (7.9 تريليون ريال) وحال نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، فأنت تقف أمام ثروة هائلة من الأراضي تناهز قيمتها المتضخمة نحو ثلاثة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي. كما تبين المقارنة بين تضاعف حجم الاقتصاد الوطني ونمو أسعار تلك الأراضي خلال العقد الماضي (2005 - 2014)، فأنت أمام تضاعف للاقتصاد الوطني لا يتجاوز 2.3 مرة، مقابل تضاعفه بالنسبة لأسعار الأراضي بأكثر من 7.5 ضعف! بما يعني أن نسبة نمو أسعار الأراضي طوال العقد الماضي، كان يسجل في المتوسط أكثر من ضعف نمو الاقتصاد، ولهذا شهدنا جميعا هذه القيمة المتضخمة جدا لأسعار الأراضي. حسنا؛ كم يا ترى أسهمت به تلك الثروة العقارية الهائلة في مجالات: القيمة المضافة للاقتصاد الوطني؟ زيادة توظيف المواطنين والمواطنات؟ تحسين مستويات الدخل للسكان السعوديين؟ دون الخوض في الأسئلة الأخرى المعاكسة؛ لعل أولها وأهمها: هل أدى هذا النمو الهائل في أثمان تلك الأراضي البيضاء إلى إلحاق أي أضرار بالاقتصاد والدخل؟ وفقا للنظرية الاقتصادية، ولواقع التطورات على أرض الواقع، فإنه يمكن التأكيد على أن نسبة إسهام تلك الثروات المتضخمة من الأراضي لم يحقق أعلى من (صفر) في المائة بالنسبة للقيمة المضافة للاقتصاد الوطني، ولم تسهم في توظيف حتى عامل واحد في سوق العمل، ولم تسهم أيضا في تحسين مستويات دخل السكان، سوى أنها فقط رفعت قيم ثروات ملاكها وحدهم دون سواهم. وبالنظر إلى إجابة السؤال الثاني أعلاه؛ فحسبما تبينه دراسة وتشخيص التحديات الراهنة للاقتصاد الوطني (من أهمها: تآكل القوة الشرائية للدخل، البطالة، تنوع قاعدة الإنتاج المحلية)، سنكتشف أن تلك الثروات المتضخمة لأراض خاملة دون أي انتفاع منها، قد لعبت أكبر الأدوار وراء تآكل قوة دخل المواطن، ونتيجة لاجتذابها قدرا أكبر من السيولة المحلية وتخزينها في تلك الأراضي عوضا عن الاستثمار والإنتاج والتشغيل، الذي بدوره سيسهم في إيجاد مزيد من فرص العمل والتوظيف، فهي أيضا أسهمت في زيادة معدلات البطالة محليا، وكذلك في تدني نسبة تنوع قاعدة الإنتاج المحلية. هل يبالغ الكاتب هنا؟ المبالغة لا محل لها هنا، والمجال مفتوح لأي كاتب أو مختص آخر لتقديم ما يثبت عكس ما تقدم، ومقام القول هنا أولا وأخيرا مرهون بما يتوافر من بيانات رسمية حول كل ما تقدم، والقيام بدراستها وإسقاطها على واقعنا الاقتصادي الراهن، علما أن كل ما تقدم قد لا يشكل في جانب نمو الثروة العقارية من الأراضي بالنسبة للبعض من ملاك تلك الأراضي حتى 5.0 في المائة، فبعضهم قد تتجاوز تكلفة المتر المربع من الأرض عليه قبل عشرة أعوام سقف الـ20 ريالا للمتر المربع، بينما قد تجد سعر المتر المربع للأرض نفسها التي لم يتحرك فيها ساكن بتقييمات الوقت الراهن أعلى من 1500 ريال للمتر المربع! وفي الأغلب بالنسبة لأولئك الملاك (خاصةً المتوسطين فما دونهم)، فلا يوجد أي جهد إنتاجي أو خدمي أو اقتصادي أو مالي تم بذله من قبله على الإطلاق، ليكون سببا مرتبطا بنمو أسعار تلك الأراضي المملوكة، بقدر ما أن ذلك النمو الهائل في الأسعار كان فقط نتيجة تفاقم تشوهات السوق العقارية، أولها وأخطرها هو زيادة احتكار مساحات شاسعة من الأراضي من لدن شريحة محدودة العدد، وقيامهم بتجميدها وتحييدها عن أي تطوير أو انتفاع أو استخدام من أي نوع كان. وماذا بعد؟ بما أن تجار تلك الأراضي الجرداء ما زالوا غارقين في أحلام نمو الأسعار إلى أعلى مما هي عليه اليوم، وفي حال استمر غض الطرف حكوميا عن التدخل لإيقاف هذا الحلقة المفرغة من نمو الأسعار دون أدنى سبب اقتصادي وجيه، فإن دائرة الحالمين بنمو ثرواتهم ستزيد دون أدنى شك من أعداد أولئك التجار، ولك أن تتخيل أن يتحول كل من لديه مدخرات من الأموال، وأن يتحول كل من لديه محل أو مؤسسة أو شركة بأمواله مقابل إغلاقه لنشاطه التجاري أو الصناعي، أقول أن يتحولوا جميعا للاستثمار في تلك الأراضي الجرداء، وهم في هذا سيكونون محقين؛ فما العائد الاستثماري المنافس للاستثمار في الأراضي؟ إنها أرباح تراوح معدلاتها بين 50.0 في المائة و80.0 في المائة سنويا، ودون أي أعباء وتكاليف أخرى، بل إنّها ستأتي إليك وأنت مسترخ في منزلك أو مستلق على أحد الشواطئ حول العالم! وهنا من سيهمه أن ينتج الاقتصاد الوطني أو لم ينتج؟ ومن سيهمه أن توجد وظائف وفرص عمل أو لم توجد؟ ومن سيهمه أن يتحمل أي آثار سلبية على الاقتصاد والمجتمع مقابل هذا التكدس للأموال في مجرد أراض جرداء؟ لا أحد سيهمّه كل ذلك سوى الأجهزة الحكومية القائمة على إدارة دفّة الاقتصاد الوطني، ولهذا فإنها ملزمة بالتحرك فورا لإيقاف استمرار أضغاث تلك الأحلام المدمرة! لهذا شهدنا ونشهد عديدا من الإجراءات والقرارات الحاسمة التي بدأت بقوة منذ مطلع نوفمبر 2014 الماضي، ولا تزال مستمرة في تدخلها، كان آخرها الإعلان عن فرض الرسوم على الأراضي البيضاء، والمنطق الراهن لمنهجية العمل الحكومي بصورته الراهنة يحمل في طياته حزمة واسعة وشاملة من الحلول والقرارات، لا يمثل كل ما تم إقراره سابقا سوى جزء يسير من حزمة تلك الإجراءات والقرارات المتتالية. خلاصة المشهد؛ إننا أمام مشهد يتتالى خلاله تدفق وضخ قرارات حكومية صارمة وعاجلة، يقابلها استغراق في الأحلام من قبل تجار الأراضي، وإن كل تلك القرارات الحكومية لن تحرك قطرة واحدة في بحر تلك الأحلام العقارية! ويوما بعد يوم سنرى إلى من ستميل كفته على الآخر، الحكومة بقوة تشريعاتها وقراراتها أم تجار الأراضي بأحلامهم الغارقة في عسل الأوهام؟ والله ولي التوفيق.
إنشرها