ثقافة وفنون

تأرجح الهوية بين الحاضر المختار والماضي الثقيل

تأرجح الهوية بين الحاضر المختار والماضي الثقيل

تأرجح الهوية بين الحاضر المختار والماضي الثقيل

"أنتِ يهودية.." دون أي مقدمات، تكتشف الراهبة "إيدا" من خالتها التي لم تكن تعلم بوجودها أنها ذات أصول يهودية، لتقع في أزمة هوية غامرة توقظها من تغييبها عن حقيقة أهلها. ذلك أهم ما يتطرق إليه الفيلم البولندي الدرامي إيدا، باللونين الأبيض والأسود، لعام 2014، والحائز جائزة الأكاديمي لأفضل فيلم أجنبي لعام 2015. لتستمر المواضيع التي تتطرق إلى مأساة اليهود في أوروبا كمعلم يلتفت إليه النقّاد بافتتان وإشادة. التشتت وأزمة الهوية لا يصيبان شخصية إيدا فقط، وإنما خالتها واندا تغرق في ذلك أيضا، إذ حين تسألها: "من أنتِ؟" ، تجيبها بسخرية بأن لا أحد يعلم ذلك. فهي قاضية سابقة لا تزال تتحلى بحصانة مطلقة، من أصول يهودية، وتنتمي لحزب شيوعي متمردة على كل المعتقدات. ويبدو أن الغضب الدفين نتيجة الأحداث التي تعرضت لها حولها إلى امرأة عنيدة غاضبة تحاول مخالفة كل القيم. وحين تصر ابنة أخيها على المضي للبحث عن تاريخ والديها، يصطدم نقاء إيدا بمقت البولنديين لليهود، وقتلهم لوالديها بعد إيوائهم وإطعامهم. وعلى الرغم من التزام إيدا بالصمت في غالبية الأحداث وعدم وجود أي ردّة فعل قوية، تلحظ تلك الحيرة والألم من خلال تحركاتها وانقباضات ملامحها، ومحاولتها إنكار ارتباطها بالعائلة اليهودية التي تنتمي إليها وتسأل عنها. الفيلم البولندي حمل فكرة غرائبية تسبب لبسا في الهوية التي تتأرجح ما بين الحاضر المختار والماضي الذي يرغمك بوجوده. نبعت فكرة الفيلم من مخرجه البريطاني ذي الأصل البولندي باول باوليكاوسكي، حيث يحاول من خلال الفيلم استرجاع بولندا القابعة في طفولته، وبالأخص في حقبة بداية الستينيات الديكتاتورية حيث تمت محرقة اليهود، واستهدافهم. وكأن في ذلك تعبيرا عن عقدة الذنب الكامنة لدى الأوروبيين، ممتزجا بالألم والغضب حيال اضطهاد اليهود. وقد نجح المخرج في اختيار الممثلة المحورية لدور إيدا، الشابة أجاتا تروزيبوكوسكا، الهاوية التي اختارها عشوائيا في أحد المقاهي، فبرعت في إظهار شخصية شابة مترددة تحاول استمداد قوتها من معتقدها لتكتشف أنه بعيد عن أصولها، وتعكف في رحلة للبحث عن الحقيقة بعد اكتشافها أن والديها يهوديان، وقد تم إخفاء هويتها للحفاظ على سلامتها. ليبدأ الغرق في أزمة الهوية والاندماج مع الآخرين، ومحاولة إخفاء جذورها التي ظلّت مغيبة عنها لفترة طويلة، في الوقت ذاته الذي تبحث فيه عن قبر والديها. مما يدفعها لأن تفيق من انغمارها في التوجهات الكاثوليكية بحكم عيشها في مدرسة داخلية محافظة رسمت لها خطوط توجهاتها المستقبلية ومعتقداتها الفكرية. في زمن تتشكل فيه الرؤية من خلال ما يرغمك فيه من ربّى ذلك الجيل. #2# التزم المخرج باول بالاكتفاء باستخدام اللونين الأبيض والأسود فقط، بعيدا عن الألوان، لإسباغ طراز كلاسيكي قديم، ولتعزيز صرامة الأحداث. والاعتماد على الصمت وتقريب الكاميرا من الوجه للتركيز على ملامحه، للتعبير عن مواقف عديدة كالغضب والحزن والحيرة، عقب فترة تعد الأقسى والأعنف في بولندا. وإن ظهر التوجه الوجودي المتجرد من المشاعر والتعاطف مع الشخصيات، في رحلة استكشافية للذات وللتاريخ بأسلوب تشويقي متميز. تبرز براعة الإخراج من خلال التضاد بين شخصية الراهبة إيدا وخالتها واندا، حيث إيدا هي رمز للنقاء وخالتها واندا للتمرد والسلطة والمجون. ومحاولة خالتها جذبها للتمرد والحرية، في الحين الذي تمعن فيه في الاعتكاف والتقرب إلى الرب. وكأن في الأبيض والأسود عكس لذلك التضاد بين الكاثوليكية والشيوعية، والنصرانية واليهودية، والالتزام والتمرد. تطغى الأنوثة على تيار الفيلم، ما بين واندا التي تمارس سلطة أنوثتها بأريحية امرأة شرسة تمسك بزمام الأمور دون الشعور بأي عقدة ذنب، وأخرى على الرغم من كونها راهبة لا يزال شبابها يملك تأثيرا في الآخرين. ويظهر عازف الساكسفون ليمثل لإيدا الحب وكل تلك الرغبات الكامنة التي تتأرجح داخلها. فهو يعرض عليها تكوين أسرة وأطفال، ومنزل مفعم بحياة تقليدية لا تصبو إليها. وإذا ما كان الفيلم يوحي بأن إيدا تقترب من تقمص شخصية خالتها، والانغماس في الملذات والبعد عن البراءة والالتزام بالدين كملاذ لها، بعد أن أظهرت رفضها للتقيد بما تفرضه عليها الدير. تعود إيدا بالمشاهد للحيرة وهي تسأل العازف عن المستقبل بعد الارتباط والأطفال، فذلك لا يشكل لها هما تصبو إليه إذ يبتعد عن بحثها عن الانتشاء بمعتقد ما، وإن كان لا يشبه معتقدات ذويها بل يشوّه هويتها. * روائية وكاتبة سعودية
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون