ثقافة وفنون

عقيدة «داعش» .. تفجير الإرث الإنساني الثقافي أمام الكاميرات وبيعه خلفها

عقيدة «داعش» .. تفجير الإرث الإنساني الثقافي أمام الكاميرات وبيعه خلفها

ربما لم تمر على التاريخ أحداث عنف تستهدف الإرث الإنساني الثقافي والحضاري بهذا الشكل الممنهج والمقصود والمتقارب زمنيا، كما تمر عليه هذه الأيام من قبل جماعات "داعش" الإرهابية في العراق وسورية، أو من قبل خلايا تابعة لها في أماكن متفرقة حول العالم. ليصبح استهداف المتاحف بأنواعها المفتوحة والمغلقة هو السمة البارزة والطاغية على هذا المشهد الدموي، إما بالتفجير علنا وإما بالسرقة والبيع خفاء. مشهد مؤسف يختلط فيه العنف الرمزي بالواقعية الهمجية، إذ يختلط فيه حطام آثار محفوظة منذ آلاف السنين، بدماء حارة بريئة، ذنبها الوحيد إيمانها العميق بهذا التقارب الثقافي الإنساني بين شعوب العالم وثقافاته. وقد حاول المفكر الفرنسي جان بودريار تقديم وصفة ناجعة لمحاربة هذا الإرهاب المتصاعد حول العالم، وبعد تحليل مطول حول سيكولوجية هذا الإرهاب وطبائعه وحول الأحداث والجهات التي يستهدفها، ليتوصل إلى نتيجة مفادها "يلزمنا ذكاء الشيطان لمواجهة الإرهاب". وكأنه بهذه المقولة يعترف ضمنيا بعدم القدرة على مواجهة الإرهاب تماما، فاجتراح الشر لمواجهة الشر، قضية مرفوضة بدورها من كل إنسان عاقل، ومن كل شعب متحضر، مهما بلغ ذكاء هذا الأمر ونجاحه. لأنها تقضي بالتغاضي عن سلسلة متتالية من الشرور. لا يمكن لها أن تنتهي متى ما تداعت كفيروس قد يخرج عن السيطرة في أي وقت. تصرف الدواعش من جهة ويأس المثقفين والمفكرين من إيجاد حلول من جهة أخرى، يؤكدان حقيقة واحدة وهي أن الإرهاب بوصفه شرا، مثله مثل الخير، أمر واقع لا مفر منه، وفي صراع لا ينتهي، وإن تنوعت أساليبه وأماكن تفشيه. فالإرهاب لا دين له ولا ثقافة، وهذا ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وأن يؤكد عليه كل مثقف حر، فربط الشر "الإرهاب" بثقافة ما بعينها هو بداية خاطئة لأي تشخيص ثقافي يروم حلا ناجعا لهذا الوباء العالمي. واستناد "الدواعش" وبعض المتعاطفين معهم إلى مجتزءات من التاريخ الإسلامي لتبيان صواب ما يقومون به من حرق أو هدم، لا يؤخذ بوصفه حجة لهم أو حجة ضد ثقافة أو دين، بقدر ما هو حجة عليهم، فلطالما كان هناك في هذه الحوادث التاريخية التي حدثت وفقا لسياقاتها التاريخية اختلافات عميقة في الرؤى وإنكار فقهي وثقافي معتبر، لم ولن يؤخذ في اعتبار هؤلاء المجرمين طالما أنه لا يتماشى وأجنداتهم الموضوعة سلفا وما تطلبه من أجل تنفيذها أهدافهم الدعائية. فالدعاية المتمسحة بالدِّين وهو منها براء تشكل عماد هذه الجماعات في زمن "الصورة" وتأثيرها. وهذا ما أدركته هذه العصابات. فلعله من المفارقة الواضحة التي تنفي أي بعد عقائدي في هذه العمليات الإجرامية، أن هذه الجماعات التي تتباهى بتدمير هذا التراث الإنساني، زعما منها أنها تقوم بهذه الأمور انصياعا لأحكام شرعية، هي ذاتها التي ثبت للكثيرين مساومتها في الخفاء لبيع هذا الآثار، حتى أصبح الاتجار بها أحد أهم مصادر تمويل هذه الجماعات. وبالعموم يبقى أن معاداة الانسانية وثقافاتها على اختلاف صورها نابعة من رؤية أحادية ليست بمستغربة من قبل أفراد مرضى نفسيا بتفوق الذات وتفردها، لذلك كان من السهل دائما تعبئتهم فكريا وأيديولوجيا، وهذا الأمر تكرر تاريخيا في كثير من الثقافات مع اختلاف الأهداف والتوجهات. فالإرهاب شر محض، والأشرار خلفياتهم النفسية واحدة ــ على اختلاف أعراقهم وأجناسهم ــ لذلك رؤوسهم جاهزة دائما للتعبئة و"التصدير". والتصدير هنا قد يأتي في شكل تفخيخ يستهدف فيه الإنسان ذاته ومن حوله في مشهد مأساوي ينم عن قمة اليأس والعجز، ولا ينم عن قوة وعزة كما يحاول أن يصور لنا هذا الشخص أو تحاول دعايته الإعلامية تصويره.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون