Author

الاقتصاد البريطاني «أعور بين عميان»

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"حكومة المحافظين ستحافظ على الضرائب منخفضة، أكثر من تلك التي تفرضها حكومة حزب العمال. هذا الأمر جزء أصيل من مبادئ المحافظين" وليام هيج رئيس مجلس العموم البريطاني مهما لف ودار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، فالميزانية العامة التي قدمتها حكومته الائتلافية (مع حزب الديمقراطيين الأحرار)، تبقى أكثر الميزانيات التي تستهدف الانتخابات المقبلة في أيار (مايو) المقبل، أكثر مما تستهدف من واقع اقتصادي حقيقي. فالحملات الانتخابية في بريطانيا بدأت في الواقع مبكرا إلى درجة مثيرة للسخرية. فكل الأحزاب خائفة على مصيرها الانتخابي، بما في ذلك بالطبع حزب العمال المعارض، الذي أثبت أنه يعيش حالة من التخبط، وضعفا واضحا، بصرف النظر عن نتائج استطلاعات الرأي، التي لم تعد تشكل مؤشرا واقعيا للحالة الانتخابية ككل. ولأن الأمر كذلك، فقد انغمس حزب الأحرار في المشاركة في الحكومة، مع توجهات المحافظين، في توافق اقتصادي نادر بين حزبين يفترض أنهما لا يلتقيان في ساحة السوق، ولا حتى في الساحة السياسية. إنه ليس إلا تكالب على السلطة، بصرف النظر عن تبريرات قادة الأحرار. الوضع الاقتصادي البريطاني جيد، ليس لأنه حقق قفزات نوعية في السنوات التي أعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية، بل لأن اقتصادات الاتحاد الأوروبي سيئة بكل المقاييس. ولذلك تلقى وزير المالية جورج أزبورن ما يستحق من السخرية، عندما شدد خلال عرضه للميزانية العامة، على أن اقتصاد بلاده تعافى مقارنة بدول أوروبية أخرى. فالمقارنة الحقة، ينبغي أن تكون مع الأكثر نجاحا، وليس مع الأكثر فشلا. ومع ذلك، يرى المنتقدون لهذه "الثقة" عند حكومة كاميرون، أن المشهد ينطبق عليه المقولة الشهيرة "أعور بين عميان". سيكون هذا "الأعور" بمنزلة "تلسكوب" فائقة الجودة والدقة وجلب المشاهد الواضحة. ليس مهما التوصيفات في الوقت الراهن، المهم، يبقى منحصرا في العوائد الانتخابية التي سيجنيها المحافظون ومعهم أعوانهم الأحرار في الشهر الخامس المقبل. وفي كل الأحوال، لقد قدموا ميزانية مغرية، ولاسيما فيما يرتبط بتخفيض الضرائب على بعض الشرائح، ورفع الحد الأدنى للأجور بنسبة هي الأكبر منذ ثماني سنوات، وتشجيع الادخار، وزيادة قيمة الهدايا المالية المعفاة من الضرائب والمقدمة للجمعيات الخيرية، ودعم المناطق الشمالية في البلاد بصورة أكبر. وإعفاء جديد على المدخرات الشخصية. والأهم في هذا الوقت بالذات، حزمة خفض التكاليف لمكافحة انهيار أسعار النفط، ولمساعدة آلاف العاملين في هذا القطاع للإبقاء على وظائفهم. ليس مهما هنا أيضا، خفض الإنفاق العسكري. لقد تحولت المملكة المتحدة في ظل حكومة كاميرون إلى دولة داخلية جدا، أو إلى دول خارجية قليلة جدا. المنتقدون لسياسة الحكومة الحالية الخارجية، يقولون، إن ديفيد كاميرون يتعاطى مع العالم الخارجي، كمناطق لقضاء العطلات والسياحة. من حق أي حكومة أن تقدم ميزانيات انتخابية إذا ما كانت الأجواء مناسبة لذلك. ولكن ليس من حقها أن تفترض أشياء غير حقيقية، خصوصا فيما يتعلق بالمقارنة بينها وبين بلدان الاتحاد الأوروبي. كما أن أحدا لا يمكنه أن يثق بتقديراتها للسنوات المتبقية من العقد الجاري. فهي تقول إن العجز سيتحول إلى فائض بحلول عام 2019 - 2020، وتذهب أبعد من ذلك للقول إن ذلك سيساعد على توفير 16 مليار جنيه استرليني، ستخصص لخفض إجراءات وتدابير التقشف، ولتحويل الأموال إلى خدمات! وإذا وجدت الحكومة من "يشتري" تخفيضاتها الضرائبية، فإنها لن تعثر بسهولة على "مشتر" لتقديراتها الخاصة بالسنوات المقبلة. هناك استحقاقات كثيرة أمامها، كما أنها تواجه أيضا مشكلات ناتجة عن الأزمات العامة في الاقتصاد العالمي ككل. ولهذا السبب عليها أن تركز على ما قدمته، وليس ما ستقدمه. تتمتع الحكومة الائتلافية الراهنة بوضعية ليست ضعيفة، ذلك أن وضعية حزب العمال ليس في المستوى الذي يمكن أن يشكل تهديدا قويا أو حاسما. وحتى لو حقق العمال نتائج أفضل من المحافظين في الانتخابات المقبلة، إلا أنهم (كما تبدو المؤشرات) لن يتمكنوا من تشكيل حكومة بمفردهم، عليهم اللجوء إلى "المحلل" التاريخي حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي قبل أن يتناغم (بصورة أو بأخرى) مع حزب لا تجمعه معه قواسم مشتركة، في حين أن هناك الكثير من التطابق مع حزب العمال. وأيا كانت نتائج الانتخابات العامة المقبلة، لن تكون الأوضاع الاقتصادية للبلاد جيدة كما يسوق المحافظون، وهي ليست سيئة كما يروج العمال أيضا. إنها الأفضل بين الأسوأ. يحارب المحافظون حزب العمال على جبهة الاقتصاد، وهي الجبهة الأولى لأي حزب في العالم الغربي، لأنها ترتبط بالناخب مباشرة، بل ملتصقة به. وعلى هذا الأساس، لا تمثل السياسات الخارجية قضية انتخابية للناخب البريطاني، ولكن في الوقت نفسه لا يتوقف عن طرح التساؤلات عن نفوذ بلاده خارجيا، وحول مكانة بريطانيا على الساحة الدولية. نقول مكانة بريطانيا؟! لنسأل الولايات المتحدة عنها. ولكيلا نبتعد كثيرا جغرافيا، لنسأل حكومة أنجيلا ميركل الألمانية عن هذه المكانة. لدى واشنطن وبرلين الجواب الحق.
إنشرها