Author

هبوط أسعار النفط والحاجة إلى تنويع مصادر الدخل «5»

|

رئيس المعهد الدولي للطاقة والبئية والتوقعات الاستراتيجية

[email protected]

 

أواصل الكتابة عن موضوع تنويع مصادر الدخل التي ختمت حديثي عنها يوم الأحد الماضي، بأننا في حاجة ماسة إلى مراجعة أولوياتنا الاقتصادية، على خلفية تراجع أسعار النفط الخام التي تكبد المملكة خسائر جمة، وذلك بالتركيز على المميزات النسبية للمملكة التي من شأنها إدخال تغييرات جذرية في بنية الاقتصاد الوطني، وبالتالي تقليل النسبة المئوية من اعتمادنا على العائدات من بيع النفط الخام. وتطرقنا إلى الميزة النسبية الأولى التي لم تنتفع المملكة بقيمتها المضافة كما تنتفع بها الدول الأخرى، وفي هذا المقال سنلقي الضوء على الميزة النسبية الأخرى للمملكة وهي وجود أقدس بقاع الأرض في مكة المكرمة والمدينة المنورة ووجهة الحجاج والمعتمرين طوال العام ومواقع دينية سياحية لا تحصى، تتميز بها المملكة عن باقي الدول لما فيها من تنويع لمصادر الدخل مع ضرورة وضع أهداف زمنية متقاربة يقيم فيها مدى تخفيض النسبة المئوية الكبيرة من اعتمادنا على العائدات من بيع النفط الخام. فمنذ بداية الكون خص الله سبحانه وتعالى وشرف مكة بأن تكون مقرا لبيته الحرام ومكانا لتجمع والتقاء المسلمين والمسلمات من كل بقاع الدنيا تلبية لأمره عز وجل لمن استطاع إليه سبيلا: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) (آل عمران/ 96). وفرض الله الحج منذ إبراهيم الخليل عليه السلام، وجعله ركنا من أركان الإسلام، يقول سبحانه (الحج/ 27-28): (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير). وفريضة الحج هي امتثال لأمر الشرع، وفريضة لتبادل المنافع، حيث إن له مدلولا اقتصاديا كبيرا؛ فهو عبادة مالية وبدنية، وثوابهما في الآخرة، وهو فرصة للكسب المادي الشرعي، والكسب الروحي الأخروي، يقول جل شأنه (البقرة/ 198): (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم). ولا شك أن صرف المملكة على الأماكن المقدسة وعلى الحجاج واجب ديني تتشرف المملكة بالقيام به، وأن المصروفات على موسم الحج والعمرة أكثر من المداخيل بكثير، وأن المملكة لا تتعمد ولا تقبل أن تستفيد أو تستغل موسم الحج مطلقا، بل إن الأمر يتعلق بالرحلات الدينية السياحية لمن يرغب من المعتمرين والزوار في ذلك؛ نظرا لاحتواء المملكة على مواقع تاريخية دينية عظيمة، وعلى أن تعامل المملكة مع تلك المواسم ليس كعبء اقتصادي وتنظيمي كما هي الحال الآن، بل كميزة اقتصادية يجب تعظيمها وجعلها ركنا من أركان الاقتصاد الوطني يتفاعل معها أبناء المنطقة، كما كانوا في السابق. فقبل عصر النفط كان اقتصاد المنطقة قائما على تلك الميزة، وتمحور دخل وتقاليد سكانها لتقديم الخدمات للحجاج والمعتمرين، وكانوا يتسابقون على خدمة ضيوف الرحمن، وكانت رفادة الحجاج أو ما يسمى بالطوافة تتوارثها عائلات المنطقة وتتفاخر بها، وكان مصدرا كبيرا للدخل لأهل مكة والمدينة. إن التركيز على هذه الميزة النسبية وتعظيمها ليس فقط بالتركيز على المستوى الجزئي الاقتصادي بزيادة أعداد الحجاج أو ما ينفقه الحجاج على السلع والخدمات، وأثر هذا الإنفاق المباشر على عوائد القطاعات التجارية في السوق، وما ينشأ عن ذلك من أنماط متعددة من الطلب المشتق في أسواق مساندة أخرى وغيره من العوامل الجزئية، فهذا الأمر محسوم بالنسبة للمملكة التي تعتبر تلك الخدمات من صميم مسؤولياتها وخدماتها دون مقابل، بل إن الأمر يتطلب أكبر من ذلك بكثير أي بإدخال تغييرات في الهيكلية الاقتصادية الكلية للمملكة لتكون الآثار الاقتصادية واقعا ملموسا وركنا من أركان المدخلات الاقتصادية للمملكة لتنويع مصادر الدخل. ويأتي على قائمة الأولويات، إحداث تغيير جذري في السياسة النقدية للمملكة، فكون الوافد للمملكة يزيد الطلب على العملة المحلية أي الريال فإن هذا له تأثير إيجابي لسعر الصرف بالعملات العالمية، ما يعني زيادة دخول مزيد من العملة الأجنبية للاقتصاد، وبالتالي أكبر الموارد لتقوية الاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية، حيث توصلت بعض الدراسات المتخصصة إلى أن كل زيادة في إنفاق الحجاج بمقدار مليار ريال يصاحبه انخفاض في سعر الصرف بنسبة 0.9 في المائة، وزيادة الدخل القومي بمقدار مليار ريال يصاحبه انخفاض بنسبة 0.19 في المائة، وزيادة العرض النقدي بمقدار مليار ريال يصاحبه ارتفاع في سعر الصرف بنسبة 0.12 في المائة. من هنا تتضح أهمية سرعة تحرير صرف الريال من الدولار الأمريكي، ففك ارتباط الريال بالدولار وتعويمه أو بناء سلة عملات سيزيد من قوة الريال من جراء الطلب العالمي على شراء الريال وسيؤهله بأن يكون أحد العملات العالمية الرئيسة للتداول، ما يدفع برفع قيمة الريال عند ارتفاع الطلب على شرائه ما سيصب في مصلحة الاقتصاد الوطني. كما أن هنالك آثارا اقتصادية مهمة جدا ولا يمكن وضعها في إطار جزئي واحد، فمعظم المسلمين الذي يبلغ تعدادهم في العالم أكثر من مليار ونصف المليار ويتزايدون بمعدل 6.7 في المائة سنويا، يتطلعون لأداء فريضة الحج أو العمرة. وأمام هذه الأعداد التي تزور المملكة من الحجاج والمعتمرين ما زال اقتصاد الحج والعمرة ضئيلا في اقتصاد المملكة، ولابد من استنباط موارد جديدة وتقديم خدمات إضافية لزرع بذرة الميزة النسبية، وذلك بتقاسم قطاعات اقتصادية عدة كالسياحة الدينية لمن رغب من الحجاج والمعتمرين، وكذلك الصناعة النوعية المتخصصة التي تعتبر من أهم المدخلات في اقتصاد الدول، فالسياحة الدينية يمكن أن توفر مداخيل جديدة وبمعدلات مضاعفة لما يتوافر الآن من خلال التركيز على هذه الميزة وتقديم الخدمات الراقية اللازمة للحجاج والمعتمرين بتمديد إقامتهم وعمل رحلات سياحية لزيارات المواقع الإسلامية التي شهدت أحداثا تاريخية كمسجد قباء والقبلتين وجبل أحد وسقيفة بني ساعدة، ووادي العقيق وقصر عنبسة، وقصر عروة بن الزبير، وبئر أريس وبئر غرس والبوصة والسقيا ورومة وعين زبيدة والأحواض التي بنيت لسقيا الحجاج على درب زبيدة الذي ينتهي في مكة والخط الحديدي الحجازي بمحطاته في المدينة المنورة وفي مدائن صالح لتكون المملكة من أكبر الوجهات الدينية على مدى العام. كما أن في منطقة الحجاز رواج اقتصادي حين يجتمع أكثر من ثلاثة ملايين زائر في وقت واحد، وهنا فرصة كبيرة لصناعة تحويلية من خلال الاستفادة القصوى من لحوم وجلود الهدي والأضاحي التي يصل عددها إلى أكثر من خمسة ملايين أضحية كل سنة، وبالتالي التركيز على الصناعات التحويلية الإسلامية، خصوصا الجلود كمصدر للجلاتين الحلال، الذي معظمه الآن يصنع من جلد الخنزير سواء أكان لأغراض طبية أم للاستعمال في المواد الغذائية. كما أن إنشاء صناعات خفيفة للوازم الحجاج والمعتمرين وهداياهم وحاجياتهم بعلامات تجارية محمية قانونا من الغش أو التقليد وتبرز هوية الحرمين الشريفين له مردود لا يستهان به.. والقائمة تطول. وفي المقال الأخير سنتطرق إلى الميزة النسبية الأخرى للمملكة.
إنشرها