Author

انخفاض أسعار النفط والحاجة إلى تنويع مصادر الدخل «4»

|

رئيس المعهد الدولي للطاقة والبئية والتوقعات الاستراتيجية

[email protected]

 

ذكرنا في مقالات سابقة أنه على خلفية تراجع أسعار النفط فإن المملكة تتكبد خسائر جمة أهمها استنزاف مورد ناضب، إضافة إلى انخفاض في إيراداتها غير المحققة، نظرا لارتباط اقتصادها الكلي بواردات البترول التي تشكل أكثر من 90 في المائة من دخل المملكة. فالآثار المباشرة لهبوط أسعار النفط في اقتصاد المملكة سلبية، ولا بد من القيام بإجراء دراسة متأنية وعميقة لوضع الاستراتيجيات للتعامل مع الآثار المقدرة وتوفير موارد مالية أخرى غير مرتبطة ببيع البترول الخام، ووضع أهداف زمنية متقاربة يقيم فيها مدى تخفيض تلك النسبة الكبيرة من اعتمادنا على عائدات البترول. وفي سلسلة من المقالات تطرقنا إلى الاستراتيجية الفعالة والسريعة: كإنشاء صندوق سيادي ليكون أحد الروافد المالية للدخل على المدى القريب، وكذلك تبني نوعا آخر من الاستراتيجيات لتنويع مصادر للدخل على المديين المتوسط والبعيد، وذلك من خلال التركيز على ما تتميز به المملكة مقارنة بغيرها من باقي الدول. وبينَّا ماهية الميزة النسبية للدول وأمثلة عليها. وفي هذا المقال سنركز على النوع الأول مما تتميز به المملكة عن باقي الدول، الذي يفضل أن تتمحور عليه بنيتها الاقتصادية لتحقيق الاستغلال الأمثل لهذه الميزة وتنويع مصادر الدخل. المزايا النسبية للمملكة لقد حبا الله المملكة كثيرا من المزايا، ما يؤهلها لأن تصبح من كبريات أوائل الاقتصادات في العالم.. وتملك المملكة ثلاث مميزات نسبية مهمة، التي لا يوجد مثيلها في أي من دول العالم، إن هذه المميزات العظيمة قادرة على أن توفر مداخيل مالية هائلة وتحقق مكانة عالية بين الأمم لو تمت الاستفادة من تلك المميزات، وبالتالي فإن وضع تلك المميزات على قائمة الأولويات وإعادة تشكيل البنية الاقتصادية سيؤهل المملكة لأن تصبح من أوائل كبريات الاقتصاد في العالم. والميزة الأهم وبلا منازع هي وجود النفط بكميات هائلة، حيث تشير التقارير الرسمية إلى أن الاحتياطيات للمملكة عند مائتين وستين مليار برميل (260 مليار برميل)، ولكن هذه الميزة النسبية ظلت حبيسة فقط لإنتاجه وتصديره كمادة أولية، فالمملكة حاليا أكبر بلد مصدر للبترول الخام للأسواق العالمية، فلا تزال صناعات البترول التحويلية لم تتعاظم ولم تنجح في إحداث تحول صناعي وتقني حديثين يمكنها من ترسيخ قاعدة إنتاجية لاقتصاد حقيقي يتيح موارد اقتصادية مضافة مثلما يتيح فرص عمل جمة كالصناعات التحويلية للبترول، بل اعتمدت على تصدير أكثر إنتاجها من البترول كمادة أولية، وبلغ إنتاج المملكة للنفط الخام معدلات شهرية ما بين 9.6 إلى عشرة ملايين برميل يوميا، أي إنتاج 3.5 مليار برميل خلال العام الماضي 2014، بزيادة أكثر من 100 مليون برميل عن عام 2013 أي ما يعادل ثمن الإنتاج العالمي من النفط الخام. والخطورة هنا تكمن في أن هذا الإنتاج الكبير سيؤثر سلبيا في الاحتياطيات، وثانيا أن بيعه في صورته الخام فيه هدر وخسائر غير محققة، فيما لو تم التمحور حول هذه الميزة العظيمة واستثمارها خير استثمار بالقيام بصناعات تحويلية للمشتقات النفطية وغيرها. فامتلاك المملكة نحو ربع الاحتياطي العالمي بمفردها، يؤهلها لأن تتربع على عرش الصناعة التحويلية للبترول، ويتحقق ذلك بوضع استراتيجيات واضحة المعالم لرفع مستوى عمليات النفط النهائية المتمثلة في التكرير والمعالجة، وترسيخ مكانة المملكة في ريادة الصناعة التحويلية للعالم، وذلك في سبيل دفع عجلة نمو ما تتميز به المملكة وتنويعه، تستهدف تحقيق النمو الاقتصادي واستقرار إنتاجية القطاع وعائداته على المدى الطويل. ولكن ما زالت الطاقة التكريرية لدى المملكة أدنى بكثير من المتوقع في بلد حباه الله بتلك الميزة العظيمة. حيث تبلغ الطاقة التكريرية حاليا نحو مليوني برميل يوميا، بينما إنتاج الخام في المتوسط بلغ عشرة ملايين برميل، أي أن الطاقة التكريرية لا تشكل إلا أقل من 20 في المائة مما تنتجه من الخام الذي يباع بصورته الأولية عالميا. إن رفع مستوى الكفاءة الاقتصادية لاستغلال الثروات النفطية ينبغي ألا يقف عند حدود تصدير النفط الخام، بل إن الأمر يتطلب الاستفادة من الميزة التنافسية للصناعة البترولية التي لا تتمتع بها أي منطقة في العالم كما تتمتع بها المملكة، حيث يتوافر النفط الخام بكميات كبيرة ولديها رأس المال وتمتلك خبرة نفطية تقنية ومرافق مساندة كخطوط الأنابيب وموانئ التحميل والتفريغ، وصناعة النفط تتميز بأنها من الصناعات ذات التكنولوجيا العالية والكثافة في رأس المال وقلة الأيدي العاملة فيها، وبالتالي فإن نسبة تكلفة العمل في هذه الصناعة لا تتجاوز 5 في المائة من مجموع التكاليف النهائية لمنتجاتها، بينما القيمة المضافة التي يمكن الحصول عليها من معالجة برميل النفط تعادل في قيمتها عشرات البراميل كنفط خام، نظرا لأن الصناعة البترولية هي منظومة متكاملة بدءا بالاستكشاف والتنقيب والإنتاج والتكرير واستخلاص مواده كل على حدة، أي أن صناعة البترول من الوسائل التي يمكن بواسطتها الاستفادة القصوى من البترول الخام، فنسبة الوزن المفقود ضئيلة جدا، والفائدة كبيرة جدا. فصناعة النفط ومعالجته تعتبر إحدى الصناعات الأساسية التي تشكل القاعدة الصناعية التي يبنى على دعائمها عديد من الصناعات التحويلية ذات الأحجام الاستثمارية والتشغيلية المختلفة، حيث تكمن أهمية الصناعة التحويلية ليس فقط كمصدر مهم للدخل، بل إن أهميتها تكمن في أنها من الصناعات التي تتعدد فيها مراحل الإنتاج وتتولد عنها مجموعة من الصناعات تحفز على القيام بصناعات أخرى متكاملة تستخدم فيها المنتجات أو المشتقات النفطية في سلسلة من عمليات صناعية أخرى، فمن تلك المادة الخام الواحدة تنتج مئات الأصناف من المنتجات البترولية بدءا بالزيوت والوقود والغازات المتنوعة وبالأدوية وحتى الغذاء أو ما يعرف بالبتروبروتين، حيث أنتجت معامل الهندسة الوراثية المتقدمة مواد غذائية بروتينية من البترول، وذلك باستخراج مادة البروتين من البترول الخام ومن ثم معالجتها، وإضافة مكسبات الطعم واللون والرائحة، وإنتاج مادة تسمى بتروبروتين وهي عبارة عن ألياف كاللحم الطبيعي أو عجينة تقدم في شكل همبورجر. أي أن إنتاج المشتقات النفطية وتنويعها وإدخالها في صناعات تحويلية أخرى له فوائد اقتصادية وتجارية وسياسية أكثر بكثير من بيعه كنفط خام، نظرا لتوافر بعض السلع الوسيطة لصناعات أخرى كثيرة، ومن ثم توسيع القاعدة الإنتاجية وتحقيق سلسلة من القيم المضافة الجديدة من السلع المصنعة. إن تبني خطة تعتمد على بناء قاعدة اقتصادية تحويلية ولاقتناء وتطوير علوم التقنية المتقدمة في الصناعة التحويلية للبترول بمشاركة شركات التقنية العالية، وكذلك بالتوسع في معاهد البحث والتطوير والجامعات التقنية المختلفة من أجل رفع قدرات المملكة التحويلية إلى 100 في المائة خلال السنوات العشر المقبلة، سيحقق للمملكة قيمة مضافة وموردا اقتصاديا كبيرا يسهم في رفع معدل النمو الاقتصادي الوطني، ومحفزا لنمو القطاعات الأخرى. وسنلقي الضوء في المقال اللاحق بشكل مبسط على الميزة النسبية الأخرى للمملكة، التي من شأنها إدخال تغييرات جذرية في بنية الاقتصاد الوطني، وبالتالي تقليل النسبة المئوية من اعتمادنا على العائدات النفطية.
إنشرها