Author

كم نخسر في عصر الضغوط؟

|
حالة تأمل عميقة في شوارعنا وطرقنا المزدحمة تثير في الذهن تساؤلات عدة، منها أين تتجه هذه الجموع الكبيرة، وهل وجهتهم واحدة، أم أن لكل واحد وجهته الخاصة، ولماذا أحدهم مسرع لا يكاد يسير على الأرض، والآخر بطيء في القيادة، وبماذا يفكر كل واحد، وما الذي يهمه ويرغب تحقيقه؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتزاحم في الذهن، وكل سؤال يلح بصفته الأهم في الإجابة عنه. الإجابة لا تلبث أن تأتي مسرعة متمثلة في قوله تعالى }هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور{. ذلك أن كل هذه الصور والنماذج تتحرك وفق القانون الإلهي الذي أمرنا بالسعي، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. ذلك هو المشهد بصورته العامة، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقال، إذ من المشاهد اليومية أن نرى الفرد يحتسي القهوة، أو الشاي وهو يقود السيارة، وفي الوقت ذاته يقودها بصورة جنونية، وفي الوقت ذاته يتكلم بهاتفه، أو يلعب فيه، كما يتجاوز بصورة جنونية السيارات الأخرى حتى يكاد يقع في حوادث شنيعة، بل إن هذا ما يحدث في كثير من الأحيان. عندما يحين وقت الوجبة يلتهم الطعام مسرعا، وبلا مضغ، حتى أنه لا يستمتع بالوجبة، ولا يتذوقها بالشكل الصحيح، وبما يتناسب مع القواعد والأصول الصحية، أما في علاقته بالآخرين فيغلب عليها التوتر، وربما النزاع والشجار معهم، ترى لماذا هذا الوضع؟! هل السرعة في القيادة، والأكل، وعدم الراحة، والاستقرار بسبب السباق مع الآخرين للوصول إلى هدف يخشى فواته، أم أن الحياة المعاصرة فرضت علينا ظروفها، وطقوسها، وشروطها المنطقية، واللامنطقية، والمفيدة والضارة. تسأل فردا بعد طول انقطاع في رؤية أحدكما الآخر: أين أنت؟ لماذا لم نرك منذ فترة طويلة؟ فيأتي الرد مباشرة أشغلتنا الحياة، ولو وجه السؤال إليك لكانت الإجابة بالمثل. ولو تأملنا في الإجابة وفحصناها من حيث واقعيتها لربما وجدنا أن الانشغال لا يعدو أن يكون توهما في كثير من الحالات، والوصف الصحيح لهذه الحالة سوء تنظيم وترتيب للأولويات، فالمهم يتراجع، وغير المهم يكون في أعلى سلم الأولويات، ولذا يشعر الناس بأنهم مشغولون وهم في حقيقة الأمر خلاف ذلك. هذا الوضع المتسم بصورة كبيرة بتغير نظام الحياة ونمطها على مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعات حمل معه سلوكيات عدة، منها ما هو إيجابي، ومنها السلبي، كالسهر ليلا، والنوم نهارا، إضافة إلى برود العلاقات الاجتماعية، إن لم يكن سوءها، حتى بين ذوي القرابة من الدرجة الأولى، إضافة إلى الشكوى من الأمراض، والعلل البدنية، والنفسية. إنه عصرنا الحاضر الذي يطلق عليه خاصة في الدول الصناعية عصر الضغوط النفسية، وذلك لما ترتب عليه من افتقاد الطمأنينة النفسية لدى كثير من الناس، ولما صاحبه من أمراض نفسية، واضطرابات سلوكية أثرت في العلاقات بين الناس، وفي الإنتاجية في العمل، وفي السلوك العام في الطرقات والأسواق. في دراسة أجريت قبل سنوات في أمريكا بشأن الضغوط النفسية، والآثار المترتبة عليها خاصة في مجال الأعمال، تبين أن قطاع الأعمال المتمثل في الشركات والمصانع، يخسر سنويا ستة عشر ألف مليار دولار بسبب الضغوط النفسية التي يتعرض لها الأفراد، الناجمة من بيئة العمل، أو تلك المرتبطة بالحياة الأسرية، أو ما له علاقة بالحياة العامة، والتغيرات التي طرأت عليها. الحنين إلى الحياة القديمة ونمط العيش أصبح واضحا عند البعض، إذ كثيرا ما يعبرون عن شوقهم لتلك الحياة رغم قلة الموارد، وصعوبة توافر سبل الحياة، مع انعدام الخدمات العامة، ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى التقارب، والتآلف الاجتماعي القوي، وضعفه، أو افتقاده في الوقت الراهن. في محاولة لوصف الحياة المعاصرة وما ترتب عليها من مشقة تساءلت: هل نحن أحرار، أم مقيدون في وقتنا، وسلوكنا، ومظهرنا، وطريقة تعاملنا؟ فألفيت أننا مقيدون، ومكبلون بطقوس يصعب على الفرد أن يتحرر منها لأنه لو فعل ذلك، أو مجرد فكر في ذلك سيكون محل نقد حاد، ولذا يجد المرء نفسه في حالة صراع بين أن يساير المجتمع، ويجامل رغم عدم القناعة بما يفعل، أو يتصرف وفق قناعاته، بغض النظر عما يترتب على ذلك من نتائج.
إنشرها