Author

الذكاء ليس بالتفكير فقط بل بالإحساس أيضا

|
في ثقافتنا العامة، تعطى مسؤولية التفكير والإبداع والابتكار دائما للعقل، ولا يحظى القلب بأي دور في هذا المجال. فالمعروف في العلم أن القلب ليس أداة لأي نشاط إدراكي، لكنه بالطبع رمز للعاطفة. فإذا أثيرت عواطف الإنسان لأي سبب كان، هب القلب مستجيبا بنبضات سريعة، ثم إذا هدأت هذه العواطف هدأ القلب وعاد إلى دوره المنتظم الذي يناغم بنبضاته عمل باقي أجهزة الجسم. ولا شك أننا جميعا ندرك أن العواطف تؤثر في التفكير، وأن التفكير يؤثر في العواطف. وقد وضع هذا الأمر في إطار علمي منهجي عام 1990، حيث ظهر بحث موضوعه "الذكاء العاطفي" جرى إعداده في "جامعة ييل" الأمريكية الشهيرة، من قبل كل من "بيتر سالوفي"، الذي أصبح حاليا رئيسا لهذه الجامعة، ومعه زميله "جون مايور". ويعرف البحث هذا الذكاء على النحو التالي: "يتمثل الذكاء العاطفي لدى الإنسان في قدرته على مراقبة عواطفه الذاتية، ومراقبة عواطف من حوله، وفهمها واستيعاب خصائصها والتمييز بينها، ثم استخدام المعرفة الناتجة عن ذلك في توجيه تفكيره وتحديد سلوكه". على أساس هذا التعريف، جرى تحديد أربع صفات رئيسة للذكاء العاطفي. أولى هذه الصفات هي قدرة الإنسان على استشعار عواطفه وعواطف من حوله، وهذا يعني قدرته على تلقي المعلومات من نظامه العاطفي ومن الأنظمة العاطفية الأخرى للناس من حوله، في إطار حالة معينة. وتأتي الصفة الثانية هنا لتتضمن قدرة الإنسان على فهم هذه المعلومات التي تم تلقيها من الأنظمة العاطفية، وإدراك معناها، واكتساب المعرفة بمضمونها. وتهتم الصفة الثالثة بعد ذلك بالقدرة على التركيز في إمكان استخدام المعرفة المكتسبة والاستفادة منها بالطريقة المناسبة. ثم تبرز أخيرا الصفة الرابعة التي تحدد السلوك اللازم تنفيذه الذي يؤدي إلى حسن تصرف الإنسان تجاه الحالة التي يعيشها. وقد يشمل ذلك، على سبيل المثال، تهدئة عواطفه الذاتية إن رأى فيها غضبا غير مبرر، أو تهدئة عواطف من حوله إن كانوا مرتبكين في أمر، أو غير ذلك. تنظر هذه الصفات إلى النظام العاطفي للإنسان كنظام معلوماتي يقوم بإرسال المعلومات إلى ذاته وإلى الآخرين، ويستطيع استقبالها أيضا من ذاته ومن الآخرين. كما تعمل هذه الصفات على تفعيل تفكير الإنسان في مضمون المعلومات العاطفية وإدراك معناها، وفي اتخاذ القرار المناسب للاستفادة منها وتحويلها إلى سلوك مناسب يحمل قيمة لصاحبه. وفي ذلك يبرز التعاون المعرفي بين القلب رمز العواطف، والعقل أداة التفكير والإبداع. ولعله يمكن القول هنا إن الذكاء العاطفي يبقى ذكاء فكريا يقوده العقل، لكنه ينطلق من معلومات عاطفية ينبض بها القلب. وفي ثقافتنا الإسلامية، ذكر للشراكة بين القلب والعقل في حياة البشر، ومن ذلك قول الله تعالى في سورة الحج: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها". ولأن الذكاء العاطفي أمر عام يهم الجميع، انتقلت المعرفة به من بحوث "جامعة ييل" إلى الصحافة. فقد صدر للكاتب "دانيال جولدمان" حول الموضوع كتابان انتشرا على نطاق واسع وترجما إلى لغات عديدة. أولهما هو كتاب "الذكاء العاطفي" الذي صدرت ترجمة عربية له عام 2000 عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية؛ وثانيهما كتاب "العمل باستخدام الذكاء العاطفي" الذي ركز على أهمية الذكاء العاطفي في توظيف الثروة البشرية. يحتل "الذكاء العاطفي" حاليا أهمية كبيرة في سوق العمل في كثير من بلدان العالم، خصوصا في الوظائف التي تتطلب تواصلا أكثر مع الآخرين. فصاحب هذا الذكاء الذي يتمتع بصفاته الأربع يكون أكثر قدرة على حسن التصرف، بما فيه صالح العمل الذي يقوم به. وعلى ذلك باتت التساؤلات المبنية على هذا الذكاء تشكل جزءا مهما مما يطرح في مقابلات التوظيف. فلم يعد التوظيف يبحث فقط عن تأهيل معرفي ودرجات علمية وخبرة عملية، بل يبحث أيضا عن مستوى الذكاء العاطفي والقدرة على التصرف الحسن في أي حالة من حالات التواصل مع الآخرين. ونظرا للأهمية المتزايدة للذكاء العاطفي، هناك مقررات جامعية، ودورات مستقلة، لتأهيل الطلاب في مجاله، وتدريبهم على حسن التصرف. ويضاف إلى ذلك أن بحوث الذكاء العاطفي لم تعد مقصورة على "جامعة ييل"، بل باتت تجرى أيضا في جامعات مختلفة أخرى. وبين المسائل البحثية التي تطرح حول الموضوع: مدى قدرة الناس على اتقان كل من صفات الذكاء العاطفي الأربع، وأثر هذا الذكاء في الإبداع والابتكار في مختلف الموضوعات وفي مختلف الأعمال، ومدى قدرة الناس على إخفاء العواطف أو إظهار عواطف لا يشعرون بها فعلا، إضافة إلى مسائل أخرى. ولا شك أن لاكتساب وتعزيز واستخدام الذكاء العاطفي أثرا مهما في الإبداع والابتكار. وهناك سببان رئيسان لذلك. أولهما أن في ممارسة هذا الذكاء تسهم في تفعيل العقلية التحليلية للإنسان وتعويده حتى على تسخير نظامه العاطفي في الحصول على المعلومات والتصرف على أساسها. وفي ذلك بالطبع تفعيل لعقلية الإبداع والابتكار. أما السبب الثاني، فهو أن هذا الذكاء يزيد من قدرة الإنسان على العمل المشترك ضمن فرق عمل مع الآخرين، كما يزيد من قدرته على إقامة شراكات معرفية أفضل مع الآخرين سواء في إطار فرق العمل التي ينتمي إليها أم خارجها. وفي ذلك بالطبع تفعيل لاكتساب أفكار متجددة وتحفيز على المنافسة مع الآخرين وتوليد للمزيد منها. وتجدر هنا إضافة فكرة أخرى بشأن جدوى عمل العقل والقلب معا. فقد قال "رالف إميرسون" أحد كتاب القرن التاسع عشر: "عندما نصمم بحماس على تنفيذ عمل ما، فإنه يبدو أسهل، وليس ذلك لأنه بات أسهل بالفعل، بل لأن قدرتنا على هذا التنفيذ تكون قد زادت". إن الشراكة بين العقل والقلب في المسؤولية عن مختلف نواحي الحياة شراكة مهمة، بل وأساسية، ليس فقط لتعزيز التفكير والإبداع والابتكار، وليس فقط لزيادة الإنجاز المهني، بل لتحقيق سعادة الإنسان أيضا. فعواطف القلب مع تفكير العقل، وتفكير العقل مع عواطف القلب، في إطار غايات أخلاقية نبيلة، رضاء ذاتي لعل فيه ما يبهج النفس البشرية ويعطي حياتنا مزيدا من السعادة. والله ولي التوفيق.
إنشرها