Author

الرأي العام .. وحروب الجيل الرابع

|
لم يعد أحد يشك اليوم في مدى أهمية وفاعلية الرأي العام الشعبي، سواء كان هذا الرأي العام الشعبي رأيا شعبيا محليا داخليا، أم أنه خارجي. وسواء كان هذا الرأي العام الشعبي الخارجي يشير إلى الرأي العام الشعبي "الدولي" أم أنه محصور فقط في رأي عام شعبي في بلد ما، عربيا كان أم أجنبيا. وبغض النظر عن مدى جودة هذا الرأي، وهل هو رأي عام "جيد"؟ أم أنه رأي عام "سيئ"؟! إلا أن الجميع متفق على الأثر البالغ والفاعل لهذا الرأي العام، الذي اكتسب في زمننا المعاصر قوة ضاغطة كبيرة، قد تكبل صانع القرار، أو تقوده إلى اتخاذ قرارات وأفعال لم يكن راغبا فيها، وإلا فإنه سيتجه لمصادمة الجماهير بشكل أو بآخر، وهو ما يتجنبه عادة القادة السياسيون. والمشكلة الحقيقية تبرز بالفعل حين يكون هذا الرأي العام "سيئا" وغير موضوعي، ويتبنى اتجاهات خاطئة، فسواء ذهب القادة للرضوخ لهذا الرأي العام "السيئ"، أو رفضوه وواجهوه بصرامة، فإن ذلك في كلتا الحالتين سيؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها. وما الثورات الشعبية التي حدثت في السنوات الأربع الأخيرة في عدة أقطار عربية إلا شاهدا ملموسا على أهمية هذا الرأي العام الشعبي، وفاعليته، بغض النظر عما إن كان "جيدا" أم "سيئا". لكن الأكيد أن الرأي العام "السيئ" خطر جدا على أمن الوطن ومصالحه الحيوية، بل المصالح العُليا التي تزعزع الدولة، وتنهار إن هي فقدتها.. خاصة إن وصل إليه العدو ـــ أي الرأي العام ـــ ونجح في التلاعب به! إن الرأي العام الشعبي اليوم هو نقطة حرجة critical point، ما انفك يستهدفها العدو، وما لم نحسن التعامل مع هذه النقطة الحرجة بذكاء، فإن العدو حتما سينفُذ عبرها لتحقيق أجندته، ومن خلالها يتحكم في الشعوب، ويحركها، من غير أن تشعر، لما تعتقد هي أنه في صالحها، لكن الحقيقة التي ربما ستُكتشف لاحقا، أنها لم تكن سوى أدوات رخيصة تلاعب بها هذا أو ذاك، لتحقيق مصلحته على حساب مصالحها الشعبية والوطنية والدينية.. وهو ما قصده البروفيسور ماكس مايوراينج في محاضرته التي ألقاها في وقت سابق في معهد الأمن الوطني الإسرائيلي التي حملت عنوان "حروب الجيل الرابع" والتي تعني بحسبه "إخضاع العدو لرغباتنا" وذلك عن طريق النقطة الحرجة التي تحدثت عنها: الرأي العام الشعبي! الأمر ذاته أشار إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في كلمته منذ أيام حين قال محذرا إن "حروب الجيل الرابع في منتهى الخطورة، وتستهدف مصر"، وأزيد: بل المنطقة بأسرها. إن بروز قوة الرأي العام أنشأ وضعا جديدا في النظام الدولي العالمي، حيث تسعى الحكومات والمنظمات والجماعات ـــ سواء أكانت صديقة أو عدوة ـــ للتنافس فيما بينها على تملك قلوب وعقول الشعوب، ولا سيما إذا ما وضعنا في الحسبان أن محاولة السيطرة والتحكم في العقل الإنساني وسلوكه هما محور أساليب الاتصال جميعا، وأن مصطلح "القوة" في العلاقات الدولية ما هو إلا تعبير عن القدرة على السيطرة والتحكم في العقول، الذي يسميه جوزيف ناي بـ"القوة الناعمة التي تجعل الآخرين ينفذون ما تريد دون أن تضطر لاستخدام القوى الصلبة كالعسكرية أو الاقتصادية". إن التطور السريع والهائل في البنية التحتية للمعلومات وتقنية الاتصالات التي شملت ليس فقط الإنترنت، بل الجوالات، وأنظمة الاتصال عبر الأقمار الصناعية وغيرها، أدت إلى تحول طبيعة نقل المعلومات من أسلوب الواحد إلى العديد One to Many كما في الإذاعة والتلفاز، إلى النموذج التفاعلي العديد إلى العديد Many to Many كما أدت إلى سهولة مرور المعلومات، غثها وسمينها، عبر الحدود، وهو ما يعني تضاؤل دور "حارس البوابة" الذي كان يوكل إليه في السابق، حماية الرأي العام الشعبي من التشرذم والانقسام، أو من التعرض لبروباجندا العدو ودعايته السوداء. لقد تخلخلت الأركان التقليدية لنظرية "وضع الأولويات"، وبرز اليوم العديد من الفاعلين المستخدمين لهذه البنية الجديدة، سواء أكانوا جهات منظمة، عدوة أو صديقة، مسالمة أو إرهابية، أو أفرادا منتمين لهذه الجهات بشكل أو بآخر. وأضحت قوة الرأي العام في الوقت ذاته، أكثر بروزا وفاعلية وحرجا، وازدادت خطورة "دوامة الصمت" في توجيه الرأي نحو اتجاهات قد تكون غير مبنية على حقائق، بل قد تكون بنيت على شائعات وتأطيرات دعائية خبيثة، وهو ما أعنيه بـ"الرأي العام السيئ". و"دوامة الصمت" لمن لا يعرفها، نظرية علمية إعلامية حديثة نسبية، ومهمة، تختص بدراسة المؤثرات في اتجاهات الرأي العام، وقد ازدادت أهميتها بشكل دراماتيكي، من وجهة نظري، بعد التحولات الهائلة في طبيعة نقل المعلومات التي أضحت تعتمد النموذج التفاعلي المفتوح العابر للحدود. تقول النظرية من ضمن ما تقول: إن عددا كبيرا من الأفراد داخل المجتمعات قد يكون لهم رأي أو اتجاه في موضوع معين، لكن لم تحن فرصة مناسبة ليبدوا وجهة نظرهم أو رأيهم، أو قد لا يكون في الأساس قد تشكل لديهم رأي أو اتجاه واضح بعد تجاه هذا الموضوع أو ذاك. وهؤلاء يشكلون عادة، الأغلبية، التي تسمى "الأغلبية الصامتة"، إلا أنه وحين يكتشف هؤلاء الأفراد الصامتون، من خلال إيهامهم بشكل أو بآخر عبر وسائل الإعلام المختلفة، خاصة الجديدة كـ"تويتر" و"اليوتيوب" وغيرهما، أن هناك "أكثرية" لكنها في الواقع "أكثرية وهمية ومختلقة" تأخذ رأيا أو اتجاها آخر مخالفا لآرائهم التي لم يعلنوها أساسا، فإنهم "أي الأفراد الحقيقيون" يسكتون! ويخفون رأيهم المخالف لما يعتقدونه السواد الأعظم في المجتمع! وهو في الحقيقة "سواد أعظم وهمي غير حقيقي"، ومع الوقت يقوم الأفراد الحقيقيون الذين جرى إيهامهم، يقومون بتبني هذا الرأي أو التوجه الذي كان مخالفا تماما لتوجهاتهم ومعتقداتهم الحقيقية الأصلية الأولى! أي أنهم ما يلبثون أن تجرفهم معها هذه "الدوامة" المصطنعة من الرأي السيئ الخبيث، وبالتالي يحقق "العدو" مبتغاه، ويحركهم بهواه! إنها نظرية علمية مثبتة بدراسات محكمة، وليست مجرد آراء قد يتهمها البعض بأنها تسيء للرأي العام وتعتبره ساذجا مغفلا! بل العكس، فإن من السذاجة اليوم، وفي زمن الثورة الهائلة للاتصالات، والتقنية، وتطبيقاتها، وأنظمة التواصل الاجتماعي؛ من السذاجة اعتبار الرأي العام رأيا ناضجا، و"جيدا"، يمتلك دائما وجهة نظر مبنية على معلومات مؤكدة، أو رأيا متماسكا بشأن المسائل ذات الصلة بالقضايا السياسية الوطنية والأجنبية. إن الخطورة اليوم أضحت مزدوجة، فحين يهتز الوعي، وتكون الصلات المباشرة والفعالة بين الرأي العام والسياسات ليست موجودة دائما، وتكون هذه الشعوب أمام سيل جارف من الأخبار والمعلومات المضللة، والمتلاعب بها، وتزداد رقعة تعرض هذه الجماهير للدعايات المغرضة بكثافة، فإن ذلك كله يزيد بشكل مهول من فرص استغلالهم من قبل الدولة أو التنظيمات المعادية لتحقق مبتغاها، عبر ما يسمى بـ "حروب الجيل الرابع". لذا ينبغي أن تلتفت الشعوب الواعية وحكوماتها إلى ذلك بشكل جدي، وتدخل هذه الحرب بكل حزم، وتخطيط، وقوة، ولتردع الطابور الخامس المخرص الدعائي العميل، لتحمي نفسها، وكينونتها، ولتدافع عن مصالحها العليا أولا، وقبل كل شيء.. فالموضوع كما قال الرئيس المصري.. في منتهى الخطورة.
إنشرها