Author

ماذا أنتجت برامج توطين وزارة العمل؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
لعل القارئ الكريم تيقن من الصعوبات التي يواجهها إصلاح أوضاع سوق العمل المحلية، من خلال ما تقدم في المقالين السابقين، فهي من جانب تواجه حجم طلب هائل للنمو السنوي، ويزيد من ضغوطه الارتفاع المتتالي في نسب العمالة الوطنية المرتفعة للتعليم، انكشفت تحدياته وزاد من حجمها الارتفاع الأسرع في نسبة العاطلين حملة الشهادة الجامعية فأكثر إلى إجمالي العاطلين، حتى وصلت إلى 51.0 في المائة إلى الإجمالي! وهو أمر ستفهم أسبابه متى تعرفت على هيكل سوق العمل المحلية، كما سيأتي إيضاحه بعد قليل، وهذا هو التحدي الثاني الذي تواجهه سوق العمل المحلية، الواجب إضافته إلى جدول مهام إصلاح أوضاع تلك السوق، وسنرى أنه لا يمكن أن ينجح دون معالجة التشوهات الهيكلية في الاقتصاد الوطني، وهو الخطوة التي تسبقها، وهو أيضا الجزء الأصعب من المهام الخارجة عن حدود مسؤوليات وزارة العمل، وقد سبق أن تطرقت وغيري من المهتمين بالسوق إلى عواقب تجاهل هذه النقطة الرئيسة، وأن ورطة تفاقم التوظيف الوهمي ستكون أحدها، بل إن هذا ما حذرت منه استراتيجية التوظيف السعودية لدى وزارة العمل مبكرا، وذكرته نصا صريحا في حال لم يتم الالتزام بتلك الاستراتيجية المهمة. في الجانب الآخر؛ تقوم سوق العمل في أغلب الوظائف التي أوجدتها، وتحديدا في القطاع الخاص، على وظائف لا تتطلب في تسعة أعشارها من حيث المؤهلات العلمية أكثر من الشهادة المتوسطة فما دون، ويكفي أن تعلم على مستوى إجمالي السوق أن وظائف نشاطي كل من التشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة، تشكل (6.6 مليون وظيفة) أكثر من 68.3 في المائة من إجمالي وظائف القطاع الخاص (9.7 مليون وظيفة) وفقا لبيانات 2013، وأن نحو 70.3 في المائة من العمالة الوافدة (5.8 مليون وظيفة) تتركز في هذين النشاطين تحديدا، وهي وظائف لا تتطلب أكثر من مؤهل الشهادة المتوسطة في أبعد الحدود! ولأن مثل هذه الحقائق المهمة وغيرها من الحقائق الأخرى التي لا يجب تجاهلها غابت عن وزارة العمل، في ظل تطبيقها لبرامج التوطين المستحدثة منذ مطلع 2011 حتى تاريخه، ما دعاها إلى تطبيق معايير أغفلت تلك الحقائق، وجعلها تتعامل مع حالة سوق العمل على أنه مجرد أرقام، انحصرت أهداف تلك البرامج في توظيف العمالة الوطنية، والعمل على رفع نسب التوطين فقط، دون النظر إلى المؤهلات التي يحملها طالبو العمل من المواطنين والمواطنات من جانب، ومن جانب آخر إلى جدوى تلك الوظائف المتاحة لدى كيانات القطاع الخاص، ومحاولة الإجابة عن السؤالين التاليين: (1) هل فعلا تلك الوظائف المتدنية المهارات والتعليم مناسبة في الأصل لاستيعاب عشرات الآلاف من طالبي العمل من المواطنين والمواطنات؟ (2) هل أدركت وزارة العمل عبر برامج التوطين التي استحدثتها أخيرا حقيقة الاختلافات الكبيرة والعميقة بين وظائف النشاطات الاقتصادية؟ وهو سؤال لا يمكن الإجابة عنه بأن نسب التوطين أخذت هذا الاختلاف بعين الاعتبار، عبر تغير نسب التوطين من نشاط إلى نشاط آخر، كما أتت به برامج التوطين! بل إن إجابة كهذه الإجابة تكرس فعليا أن وزارة العمل لم تأخذ هذا الاختلاف الكبير على محمل الجد، وتؤكد أيضا تلك البرامج حينما صممت في بدايتها لم تستند إلى أرضية اقتصادية واسعة الأفق، بقدر ما أنها نظرت فقط إلى مجرد الإنجاز القائم على الكم لا النوع؟ لأن تلك البرامج كانت صارمة، بغض النظر عن جدواها وصلاحها أو سوء تصميمها، وجدت منشآت القطاع الخاص نفسها أمام تحديات نظامية جسيمة، فلم يكن منها إلا أن رضخت لتلك البرامج، وقدمت لها ما تريد من إنجازات كمية لا نوعية، إلا أن هذه الاستجابة جاءت بكل أسف عبر تفاقم أشكال التوظيف الوهمي للعمالة الوطنية، ولهذا شهدنا ارتفاعا غير مسبوق في زيادة توظيف العمالة الوطنية، وكم كان لافتا جدا أن نفس النشاطين المذكورين أعلاه (التشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة)، كانا النشاطين الأعلى توظيفا، مقارنة ببقية النشاطات الاقتصادية في سوق العمل، فمن إجمالي زيادة التوظيف للعمالة الوطنية خلال الفترة 2010-2013 التي بلغ حجمها أكثر من 742 ألف عامل وعاملة سعودي، بلغت حصة هذين القطاعين أعلى من 60 في المائة (نحو 447 ألف عامل وعاملة سعودي)! جانب آخر لا يمكن تجاهله؛ أن أغلب وظائف القطاع الخاص يعتمد وجوده على النشاطين (التشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة)، والناتج عن زيادة اعتماد منشآت القطاع الخاص إما على الدخل المتأتي من مناقصات الحكومة، وإما من خلال الاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة في السوق المحلية، وتحت مظلة هذا العامل المسيطر على نشاطات سوق العمل المحلية، وما نتج عنه من آثار سلبية تم التطرق لبعضها أعلاه، وتم الحديث عنها بصورة واسعة وعميقة طوال الأعوام الماضية في أكثر من مقام ومقال، لعل من أبرز تلك الآثار: أن الاقتصاد الوطني بسبب اعتماده الكبير على دخل النفط، كان مما أفضى إليه هذا الاعتماد المفرط؛ أن أوجد لدينا سوق عمل محلية غير منتجة! فهي تعتمد على استهلاك البضائع المستوردة مقابل عدم إحلالها بصناعات محلية، واعتمدت على عقود مناقصات الحكومة التي تورطت في تعثرها أكثر من تنفيذها حسبما كان مخططا، وما النتيجة؟! جزء منها ما نشاهده اليوم من تفاقم أشكال التحديات والمعضلات، سواء على مستوى هيكلة الاقتصاد الوطني، أو على مستوى سوق العمل المحلية، وهما أمران لا يمكن فصلهما عن بعض كما اعتقدت وزارة العمل طوال الأعوام الأخيرة. ألخص كل ما تقدم في وقوفنا حتى تاريخ هذا المقال أمام تحديين: (1) غياب الصورة الرقمية الموثوقة حول سوق العمل. (2) تشكل برامج توطين غير مدركة فعلا للتشوهات الحقيقية سواء على مستوى الاقتصاد الوطني، أو على مستوى سوق العمل نفسه، ما أفضى بدوره إلى تشكل تحديات جديدة لم تكن في الحسبان، رغم أنها كانت متوقعة في حال تم إغفال هذه الحقائق أو التحديات، ومن أخطرها تفاقم أشكال التوظيف الوهمي! وأكمل معكم- بإذن الله- في المقال القادم بقية تحديات سوق العمل المحلية، للوصول في ختام هذه السلسلة إلى رؤية شاملة للحل والتطوير. والله ولي التوفيق.
إنشرها