Author

تحذيرات المملكة.. ومأساة «معاذ»

|
لم أنم تلك الليلة التي شاهدت فيها "الفيلم" الموثق لعملية إحراق أخينا الضابط طيار/ معاذ الكساسبة – يرحمه الله -، ليس رعبا، فمعروف عنا نحن العرب، والمسلمين، والسعوديين خاصة، الشجاعة والإقدام، أبا عن جد، في سبيل الدين والمليك والوطن، بل لخبرتي الفنية، اتضح لي بجلاء، أن الموضوع أكبر من مجرد تنظيم إرهابي، فهذا الفيلم ذي الثلاثين دقيقة، أنتجته "داعش" باحترافية فنية عالية، وبكاميرات عالية الجودة (HD)، ومدير تصوير ضليع، ومصورين متمكنين، وفنيي إضاءة وصوت متمرسين، وقبل ذلك كله، مخرج خبير، يعرف ماذا يريد، ويمتلك حسا حرفيا عاليا، كان موجودا معهم في الميدان، وأشرف على موقع التصوير بشخصه، ولربما هو من رسم سيناريو التنفيذ الوحشي، الموغل بالسادية، إلا أنه مليء بالرمزية الخطيرة جدا، وهي رمزية مقصودة دون شك. لم يكن هذا "الفيلم" مجرد مقطع لفيديو تصوره جماعة إرهابية، أو تنظيم إرهابي، أو عناصر إرهابية مقاتلة، لعملياتها الشيطانية، حيث تتصف مثل هذه المقاطع بالارتجال والتلقائية ورداءة الجودة، بل كان "فيلما احترافيا" معدا له، وبأدق تفاصيله، بشكل جيد، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. لم تلفت نظري عمليات "المونتاج" المتقنة للفيلم – والمونتاج لمن لا يعرفه، مجموعة عمليات فنية تتم بعد التصوير، تقوم بترتيب اللقطات، ووضعها في تسلسل معين، وإدخال المؤثرات الصوتية، والجرافيكس، والمكساج لصوت المذيع، وخلفيات النشيد- كونها قد تتم من قبل جهات فنية مختصة خارج سورية، يقوم التنظيم الإرهابي بإرسال المادة إليها لتقوم بالمونتاج، خاصة أن ميزانية التنظيم، وقدراته المادية جيدة بسبب مداخيل بيعه للنفط في المناطق التي يسيطر عليها، حيث يجد له زبائن دائمين وداعمين، سواء أكان هؤلاء الزبائن جهات منظمة داخل تركيا، أو من نظام بشار الأسد نفسه، الفاقد للشرعية، وذلك بحسب ما ذكره نائب وزير الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، ديفيد كوين، الذي صرح في وقت سابق أن "داعش يبيع النفط بسعر مخفض لمجموعة من الوسطاء في تركيا يقومون بنقله وبيعه مرة أخرى"، والذي استطرد، "الحكومة السورية هي الأخرى، قامت بترتيبات لشراء النفط من داعش". أقول لم تلفت نظري عمليات المونتاج، أبدا، بقدر ما لفت نظري ذلك المشهد المهيب، الذي أحضر فيه معاذ الكساسبة، وهو يتأمل - بأداء تمثيلي بحت، جرى تدريبه عليه، ولربما أعيد تصويره عشرات المرات حتى أتقنه، فهو العسكري الذي لم يسبق له التمثيل - يتأمل بشكل بانورامي، موقعا لمبنى من مباني هذه الجماعة الإرهابية، الذي جرى قصفه في وقت سابق من قبل قوات التحالف العربي الغربي الخير، ثم لنشاهد في لقطة تليها، اصطفاف عدد من إرهابيي التنظيم، فوق أنقاض المبنى، وعلى الأرض وحول الطيار المقاتل معاذ، ولم يكن هذا الاصطفاف عسكريا، بل فني، أي أن المخرج وضع كل واحد منهم في موضعه، ووجهه بطريقة الوقوف، وهو ما بدا واضحا جدا في اللقطات التي أظهرت عددا من الإرهابيين الملثمين فوق أنقاض المبنى، أحدهم رفع قدمه اليمنى، (وليس اليسرى) بزاوية قائمة فوق الأنقاض، في حين كانت الكاميرا تلتقط هذا المشهد من الزاوية اليسرى، أي أن وقفته وضعت بهذا الشكل من قبل شخص مختص في الإخراج "الدرامي التمثيلي" وليس الوثائقي! وهو ما يعرفه أهل الاختصاص، هذا بخلاف الاختيار الدقيق للملابس لجميع من ظهر في الفيديو. السيناريو المعد هو الآخر، والحوار الذي جرى تلقينه، بل جرى كتابته للبطل معاذ، ووضعه أمامه ليقرأ منه، هذا إضافة إلى اختيارهم للمذيع، ولهجته، ولهجة كورال الخلفية الإنشادية، التي توحي للمشاهد أن عناصر التنظيم "سعوديون"، وكذا القول الذي جرى إبرازه لشيخ الإسلام "ابن تيمية" – عليه رحمة الله-، علاوة على أن عملية إسقاط الطائرة هي ذاتها تمت من خلال مضادات أرضية للطائرات، جرى توفيرها لهذه المنظمة الإرهابية، في الوقت الذي بح فيه صوت الجيش السوري الحر وهو يطالب بتزويده بمثل هذه الأسلحة المتطورة، ليواجه بها القصف الوحشي لنظام بشار الأسد الذي يمارس أقسى أنواع الإرهاب، وأخطره، إرهاب الدولة، لكن المجتمع الدولي رفض ويرفض تسليم الجيش الحر هذه الأسلحة بحجة خوفهم من تسربها للجماعات الإرهابية! أقول، إن كل هذا لم يكن أبدا محض صدفة، وليس مجرد عصابات إرهابية، وتنظيم إرهابي يقوم بمثل ذلك كله، بل إن وراءه ما هو أكبر من ذلك، ولذا لم أنم تلك الليلة. لقد سبق وحذرت المملكة العربية السعودية مرارا وتكرارا من خطورة الوضع في سورية، وذلك منذ اندلاع الشرارة الأولى لما حدث ويحدث فيها، قبل أربع سنوات، جراء إرهاب الدولة الذي يمارسه بشار، ونظامه، وناديت بضرورة التحرك الدولي لنجدة الشعب السوري، وأن يضطلع مجلس الأمن بمسؤولياته تجاه حماية الأمن والسلم في العالم، وأن التأخر في ذلك سيتسبب في جعل سورية بؤرة للإرهاب، تجتمع فيها الجماعات الإرهابية المتطرفة، وأن نار الإرهاب ستصل الجميع، ما لم يتم القضاء على أس المشكلة قبل تفاقمها، ولم تأل جهدا في سبيل ذلك، كونها استشعرت مبكرا خطورة الموقف، إلا أن المجتمع الدولي لم يتعامل مع هذه التحذيرات كما يجب! لقد حملت المملكة العربية السعودية في تصريحات رسمية عدة، "الأطراف الدولية التي تعطل التحرك الدولي المسؤولية الأخلاقية عما آلت إليه الأمور خاصة إذا ما استمرت في موقفها المتخاذل والمتجاهل لمصلحة الشعب السوري"، و"أن الأوضاع الإنسانية والمأساوية التي يعيشها أبناء الشعب السوري تتفاقم مع الأسف الشديد وأن المملكة العربية السعودية تؤكد المرة تلو الأخرى أن التخاذل الدولي في وقف سياسة القتل والبطش الممنهجة التي يتبعها النظام السوري قد أدت إلى تفاقم الوضع وتعاظم المأساة" وزيادة خطر الإرهاب في المنطقة، وأن سورية بوضعها الحالي أضحت "عشاء للإرهاب"، وسبق وجدد سفير المملكة في لندن، الإشارة إلى أن هذا التخاذل في حسم المشكلة السورية يفاقم من خطورة تنظيم "داعش" على العالم حيث قال في مقالة له نشرتها "التايمز" البريطانية إن "الاضطرابات والحرب في سورية أدتا إلى جعل سورية ملاذا آمنا لعناصر تنظيم "داعش"، فتوجهوا إليها من العراق، وقد سمح النظام السوري لتلك العناصر بالعمل على الأراضي السورية واستخدامها ضد المعارضة المعتدلة، وبالتالي فقد جندت هذه المجموعة شبابا وشابات مضللين من مختلف أنحاء العالم، وبعد أن أمضت تلك المجموعة وقتا في سورية عادت إلى العراق، وقامت باحتلال مناطق واسعة في سبيل إقامة ما يسمى بالخلافة" بزعمهم. وعن نشأة هذا التنظيم، يقول تركي الفيصل في مقاله المنشور في صحيفة «الشرق الأوسط»، إن إيران بدأت بإيواء أعضاء القاعدة الفارين من أفغانستان، قبل أن تسمح لهم بالتسلل للعراق إبان الاحتلال الأمريكي لها في 2003 ليعيدوا تشكيل أنفسهم تحت مسمى «القاعدة في بلاد الرافدين»، قبل أن يتسلل بعضهم لسورية بموافقة بشار الأسد رئيس سورية، لتكون نبتة تنظيم “داعش”. أما وقد تم ما تم، في ظل الفيتو الروسي، ثم هذه الأفلام المتقنة التي نراها تخرج، والتي تقف وراءها دول، وليس مجرد جماعة إرهابية، فإني أقول إن الخطب جلل على المنطقة، ومن أحرق معاذا، يريد أن يحرقنا جميعا، واليوم، كلنا معاذ.
إنشرها