Author

نظريات اقتصادية .. قول لا أثر له

|
اعتبرت المواءمة التي ابتكرها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، بين التوجهين اليساري واليميني في الاقتصاد نظرية، ولا سيما عند أولئك الذين وجدوا أن المرونة حتى في المبادئ الثابتة ضرورية، لمواجهة الاستحقاقات ومتطلبات التغيير. أطلق على استراتيجية بلير – إن جاز وصفها استراتيجية - الطريق الثالث، وهو في الأساس يختص بالوصول إلى أفضل حالة ممكنة، تكون نتاج مزيج بين مبادئ اليسار واليمين. لم يكن سهلاً آنذاك على بلير أن يمرر هذا التوجه على أعضاء حزبه (العمال)، لكنه نجح في النهاية في تقليم أظافر اليساريين جدا، لحساب اليمينيين قليلا. ودفعت المواءمة المذكورة، حتى إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون إلى الإعلان في غير مناسبة عن إعجابها بـ"مزيج" بلير، الذي حقق له بالفعل دعما انتخابيا كبيرا. لعل النقطة الدافعة إلى توجه بلير في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أن النظريات الاقتصادية التي كانت مطروحة، بقيت ضمن نطاق النظريتين التقليديتين. وكان العالم بالفعل في حاجة إلى نظرية أخرى، إلى درجة التسرع بصبغ أفكار بلير بصفة النظرية! كان المشهد يحتاج (بل ينتظر) أي فكر اقتصادي جديد، أو أي بدائل، حتى وإن كانت تطرح للمرة الأولى، وتحمل في طياتها مخاطر لا يعرفها أحد. لقد بقي الفكر الاقتصادي التقليدي مستندا إلى رموزه الكبار وفي مقدمتهم بالطبع، "آدم سميث" و"جون كينيز" و"جوزيف شومبيتر" وغيرهم. ينطلق هنا وهناك تحول سياسي ما، أو استحقاق محلي داخلي، تتعدل النظريات المطروحة بصورة آنية، وأحياناً دائمة، لكن روح النظريات تبقى كما هي. وعلى الرغم من تحذير المفكرين المعاصرين من مغبة وقوع العالم في أزمة اقتصادية كبرى قبل وقوع الأزمة التي انفجرت عام 2008، إلا أنه حتى "نظرية" بلير التي يفترض أنها جاءت في الوقت المناسب، لم تتمكن من وقف "جرافة" السياسة الاقتصادية التي وضعتها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، وأعجب بها آنذاك صديقها الرئيس الأمريكي رونالد ريجان. وهي سياسة تقوم على مبدأ، أن السوق أهم من المجتمع! بل إن السوق هي التي تصنع المجتمع! وحتى المفكرون المعاصرون الذين كانوا أقرب إلى أفكار آدم سميث، كانوا ضمن صفوف المحذرين من وقوع أزمة كبيرة لن تزول آثارها قبل سنوات طويلة. بقيت "نظرية" بلير اسمية أكثر منها عملية، لأنها لم تحدث التغيير المطلوب في الزمن الحساس الذي سبق الأزمة. على كل حال، الأزمة انفجرت، وأثبتت بأكبر قدر من التكاليف والخسائر، أن سياسة تاتشر صحيحة ولكن بالعكس. أي أن المجتمع هو الذي يصنع السوق وليس العكس. لا يحتاج العالم، حتى بعد الأزمة الكبرى المشار إليها، إلى نظرية جديدة، سواء حملت الرقم الثالث أو الرابع أو حتى العاشر. إنه بحاجة فعلا إلى تكريس الطريق الثالث، الذي يعتمد أساسا على أخلاق المجتمع كـ"جهة" رقابية طبيعية وتلقائية، وعلى آليات وأدوات ونجاحات السوق. إن أي نظرية مهما كانت ذات قوة، تحتاج إلى تعديل (وأحيانا إصلاح) بفعل الاستحقاقات التي تتركها المتغيرات. لكن أسس العلاقة بين السوق والمجتمع، التي تقوم على أن الأولى أوجد الثاني، وأن هذا الثاني يخدم الأولى، تبقى صالحة في كل الأزمنة، وفي حالات الاستقرار الاقتصادي، أو متغيرات مشهد الاقتصاد. أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية، أن "النظرية" الأقوى، هي تلك التي تضمن علاقة سليمة بين المجتمع والسوق، والسبب كان واضحا، يعود أساسا إلى الخراب الذي أحدثته سياسة تاتشر بتقديم السوق على المجتمع، إضافة إلى جمود النظريات الاقتصادية التقليدية المعروفة، في عالم متغير جدا. قد تظهر نظريات جديدة، لكنها لن تخرج من سطورها، إذا ما تجاهلت هذه أن الإنسان هو الذي يصنع السلعة ومعها السوق، لا العكس.
إنشرها