Author

تيسير كمي في مواجهة تعسير كلي

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"اليورو مصير مشترك، وأوروبا مستقبل مشترك" أنجيلا ميركل - مستشارة ألمانيا عارضت ألمانيا برنامج التيسير الكمي التاريخي الأوروبي بشراء سندات حكومية وخاصة بقيمة 60 مليار يورو كمرحلة أولى. لكن البرنامج أُعلن بالفعل وسيدخل حيز التنفيذ في آذار (مارس) المقبل. كان لا بد لألمانيا أن تعارض الخطوة كما كان لابد للبنك المركزي الأوروبي أن يمضي قدما في هذا البرنامج. معارضة حكومة ميركل صوتية ضرورية للسياسة المحلية الألمانية، وإصرار البنك المركزي ضروري أيضا لأن منطقة اليورو لم تعد قادرة (فعلا) على المضي قدما في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعيشها بدءا بالديون وليس انتهاء بالنمو القريب من الصفر للمنطقة بأسرها. إلى جانب تخلف عديد من دول اليورو عن تنفيذ البرامج الخاصة بخفض مستويات العجز لديها بما في ذلك فرنسا البلد "القوي" الثاني في المنطقة المذكورة. الـ 60 مليار يورو ليس سوى المبلغ الأول لبرنامج قد يصل إلى ألف مليار يورو في غضون عامين. مرة أخرى لم يعد مهما تحذير ميركل لمنطقة اليورو بالابتعاد عن مسار الإصلاحات في أعقاب الإعلان عن البرنامج المشار إليه. لكن كان عليها أن تحذر لسبب بسيط آخر هو أن الحجم الأكبر من الأموال التي سيتم ضخها في البرنامج ستأتي من ألمانيا، تماما كما هو الحال بالأموال التي ضخت لإنقاذ اقتصادات متهاوية في المنطقة، وعلى رأسها الاقتصاد اليوناني. وإذا كان لا بد من هذه الخطوة فلماذا تتم دون التحذير الألماني التقليدي بل وحتى "الإهانات" الألمانية المعهودة. ومع استفحال الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو تعرف ميركل وكل السياسيين الألمان أن الإصلاحات التي تنادي بها لن تتم بمعزل عن برنامج التيسير الكمي، في منطقة بلغ سعر الفائدة فيها حد الصفر. لا أحد أحسن من أحد. الولايات المتحدة اعتمدت مثل هذا البرنامج طوال السنوات الماضية لدعم اقتصادها وكذلك فعلت اليابان أخيرا. وعندما يزداد الحديث عن إمكانية خروج دولة مثل اليونان من اليورو، بل وحتى إثارة الشكوك على بقاء اليورو نفسه كعملة موحدة، لا يوجد أمام واضعي السياسة المالية الأوروبية غير التيسير الكمي الذي اكتسب أخيرا الصفة الأمريكية في حين أن بريطانيا اعتمدته مرات عدة في السابق. الحقائق كثيرة على تردي أوضاع اقتصاد اليورو لكن المخارج من هذه الأوضاع قليلة جدا. ورغم أن التيسير الكمي ليس علاجا دائما، لكنه يظل الأفضل عندما تصل الخيارات والبرامج المتاحة إلى الصفر ولم تعد هناك حتى حلول وسط. لقد غابت الحلول الحاسمة عن الساحة الأوروبية منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم تعد حتى الآن. الأزمة التي تواجهها منطقة اليورو معروفة وواضحة: فائدة قرب الصفر، تراجع التضخم بصورة تاريخية، هبوط مستوى الاستثمارات. وهي عوامل مفجعة إذا ما استمرت فترة طويلة. وهذ الفترة طالت بالفعل مقارنة بالأوضاع المشابهة التي سادت دولا أخرى خارجها وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي تعتقد الجهات الدولية الأكثر حيادية أنها ستتمتع باقتصاد في السنوات القليلة المقبلة سيشكل المنارة الوحيدة للاقتصاد العالمي ككل. وهناك ميزة إيجابية لبرنامج التيسير الكمي الأوروبي مقارنة بمثيله الأمريكي. فمخاطر البرنامج في منطقة اليورو ستوزع على جميع الدول الأعضاء فيها في حين أن الأمر عكس ذلك في الحالة الأمريكية. وهذا يعني أن امتصاص المخاطر عن طريق تشتيتها سيوفر حصانة للبرنامج بصرف النظر عن المساحة الزمنية التي سينفذ فيها. إنه مخرج واقعي مطلوب. بل بعض الجهات تعتقد أن البنك المركزي الأوروبي تأخر في طرحه. وبصرف النظر عن هذه النقطة فإنه مخرج لم يلحظه وزير الخارجية البريطاني السابق وليام هيج الذي قال يوما "إن اليورو مثل مبنى يحترق ولا توجد فيه مخارج". بالطبع يستطيع أي سياسي بريطاني أن يتحدث بهذه الصيغة طالما أن بلاده لا تزال خارج هذا "المبنى". غير أن الحقيقة ليست كذلك على الإطلاق. فحتى البلدان الأكثر تضررا من عمليات الإنقاذ التي تشهدها منطقة اليورو (وبالتحديد ألمانيا) باتت متمسكة باليورو ومنطقه أكثر من أي وقت مضى. فميركل (الرداحة) نفسها تعتبر اليورو "مصيرا مشتركا". والبرنامج يستطيع أن يحقق مجموعة من الأشياء في زمن قياسي. في مقدمتها دعم الصادرات الأوروبية وزيادة الإنتاج، إضافة طبعا إلى رفع التضخم لتحريك النمو أكثر. كل هذه عوامل يحتاج إليها اليورو الآن حيث أثبتت أنه عملة باقية رغم الشكوك حولها من جهات بعينها، وأن المنطقة التي نشأت على "حسه" لن تتفكك. وكل السياسيين على الساحة الأوروبية بمن فيهم البريطانيين أنفسهم، يعرفون أن هذه المنطقة تستحق "التضحية" المالية فهي لم تقم على أساس مرحلي بل نشأت وفق قواعد المصير. ستكون هناك مصاعب كثيرة حتى في تنفيذ برنامج التسيير الكمي، ولن يتوقف "ردح" ميركل لإرضاء معارضيها الألمان في الداخل، لكن إطلاق هذا البرنامج أثبت أن الأوربيين يختلفون وربما يتبادلون الاتهامات، لكنهم متفقون على أن عملاتهم الوطنية السابقة التي محاها اليورو لن تعود إلى الساحة مجددا. وليس مهما هنا أيضا "شماتة" البريطانيين الذين لا يزالون يتخبطون في مسألة الانتماء للاتحاد الأوروبي.
إنشرها