ثقافة وفنون

«أنا» متضخمة تخلط الخيال بالواقع

«أنا» متضخمة تخلط الخيال بالواقع

"لا وجود لي .. هل أنا هنا؟" تلك الأسئلة عبّرت عن الصراع الذي يعيشه ريجان تومسون بطل فيلم "الرجل الطائر"، ليجسّد الأزمة التي يعيشها ممثل منسحق انطفأت نجوميته بعد فيلمه الأوحد والأنجح في مسيرته كبطل على هيئة رجل طائر. ويمتد انسحاقه لتتشكل أمامه تساؤلات وجودية تتضارب مع رغبته في العودة إلى ذلك التألق، وتوهمه بالقدرة الخارقة وكأنه بطل دون كيشوتي. الفيلم من إخراج المكسيكي أليخاندرو إناريتو، لعام 2014، يعدّ ذا طابع أقرب للكوميديا السوداوية ممتزج بالدراما، ما يختلف عن بقية الأفلام التي أخرجها من قبل أليخاندرو، كبابل، و21 جرام، وجميل. وقد احتفى به عديد من النقّاد بفيلم الرجل الطائر، الذي فاز بجائزة اختيار النقاد للأفلام، ورشح لجائزة الأوسكار، ورشح لجائزة الجولدن جلوب، فيما حاز الممثل "مايكل كايتون" على جائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل لدوره في الفيلم كريجان تومسون، ليبرع في تأدية الدور بكل عفوية وحماسة، حتى تكاد تنسى أنه يؤدي دوراً لفيلم. فما هو إلا رجل تغضنت ملامحه لا يزال يعيش حالة الانتشاء من نجاح فيلمه الأوحد الذي يحتفظ بصورته، ويحاول استغلال شتى الطرق لإنجاح مسرحيته والقضاء على وساوسه وقلقه. يتضارب الوهن والحالة الانسحاقية التي يعيشها ريجان مع النجومية الملتصقة بجلده، ليصاب بجنون العظمة ويلحق به شبح الرجل الطائر، ليمعن في إقناعه بأنه "الرجل الخارق" أو "السوبر مان"، القادر على القيام بأي شيء. ويبقى التساؤل معلقاً لاختيار المخرج اسم "ريجان" للشخصية المحورية، وعلاقته بالرئيس الأمريكي السابق الذي بدأ مشواره العملي ممثلاً. فريجان تومسون يحاول أن يحقق لذاته شيئاً يذكر به. التصوير أقرب للواقعية، حيث تتحرك الكاميرا باستمرار دون توقف، لتتنقل عبر أماكن عديدة تتفاوت ما بين خشبة المسرح والحانات والطرقات. وكأن الكاميرا تلاحق البطل ريجان أينما ذهب، ليغذي المخرج من نرجسية الممثل الطامح للفت الانتباه. فيما أثرت المؤثرات الصوتية من الطابع الواقعي كصوت اشتداد الريح أثناء تحليق ريجان في السماء، وأصوات أبواق السيارات. "هناك صوت يخبرني بالحقيقة، يشعرني بالاطمئنان". تتكرر لقطات تحوي مونولوجا داخليا غرائبيا ما بين ريجان والرجل الطائر الذي يجسّد جنون العظمة لدى الممثل، والأنا المتضخمة لديه الباحثة عن أي سبيل لجذب الانتباه "هؤلاء الناس لا يعلمون ما أنت قادر على القيام به". تتفاقم تلك الحالة ليتوهم بقدرته على تحريك الأشياء، في مشاهد مثيرة للسخرية، تتفاوت بين رؤيته الخاصة وهو يشير إلى ما يرغب في قذفه وتحطيمه في الهواء، وما بين الآخرين وهم يشاهدون حركاته الجنونية إذ يمسك ويهشّم كل ما يحيطه. تتفاقم تلك الحالة حتى يجد نفسه قادراً على الطيران وتأدية دوره "كرجل طائر" على أرض الواقع، ويتسارع البعض في محاولة إنقاذه لاعتقادهم أنه على حافة الانهيار يحاول الانتحار. يصف ريجان المسرحية التي يحاول إنجاحها: "هذه المسرحية أشبه بنسخة مشوهة لذاتي تلاحقني أينما ذهبت". فيما يأتي طاقم المسرحية بأكمله وكأن كل شخص فيه في دائرة مغلقة غير مرحّب بالآخرين كابنة ريجان "سام" ذات النبرة الساخرة والأسلوب اللامبالي، التي برعت بتأدية دورها الأمريكية إيما ستون، إذ تحقد على والدها لإهماله إياها وتركيزه على التمثيل. فيما يأتي دور الأمريكي إدوارد نورتون، كممثل شهير متغطرس "مايك كونر"، الذي يحاول استلاب الأضواء من ريجان، ويبرع في التمثيل بتلقائية على عتبة المسرح، فيما يفشل في محاكاة الواقع والتعامل مع الآخرين في حياته الخاصّة، حيث ينطفئ ويظهر عجزاً في تكوين العلاقات الإنسانية. "الفضيلة غير المتوقعة للجهل". عبارة حاولت من خلالها ناقدة سينمائية تتصيد الأخطاء في الفيلم، أن تصف نجاح مسرحية تومسون، وذلك بعد محاولاته المستميتة ثنيها عن مهاجمة عمله. وإن كانت في تلك العبارة نظرة استعلائية لممثل منسحق، إلا أنه يظهر بقنوطه نضجاً فلسفياً، وهو يتساءل "كيف انتهى بنا المطاف هنا؟ هذا المكان سيئ للغاية لا ننتمي إليه". لتتفاقم أزمة محاولة الخروج من عباءة الشهرة أو معاودة ارتدائها، ليصل الأمر بريجان إلى حد الانهيار، والالتباس ما بين الواقع والتمثيل ليصهرهما في بوتقة واحدة، ما يتسبب في اقترافه أعمالاً أقرب إلى الجنون، يحتفي بها الآخرون ويعدونها ضرباً من الابتكار وعبقرية التمثيل. حتى يكاد المشاهد يتشكك في أن وجه الممثل استحال إلى وجه طائر بعينين حادتين ومنقار، ويشرع آخرون في ملاحظة قدراته الخارقة كالتحليق جواً.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون