ثقافة وفنون

كانط .. الفيلسوف المؤسِّس لثقافة السِّلم العالمي

كانط .. الفيلسوف المؤسِّس لثقافة السِّلم العالمي

كانط .. الفيلسوف المؤسِّس لثقافة السِّلم العالمي

كانط .. الفيلسوف المؤسِّس لثقافة السِّلم العالمي

ألف كانط كتابا في السياسة الدولية سنة 1875م بعنوان"نحو سلام دائم بين الشعوب" ليقدم فيه نظرية في السلم العالمي، حيث يؤكد على أن الشعوب لن تتمكن من وقف الحروب إلا إذا تعاقدت فيما بينها وفق بنود سيحددها بوضوح تام. وقد قام بترجمة الكتاب إلى العربية شيخ الديكارتيين العرب الدكتور عثمان أمين بعنوان: "مشروع للسلام الدائم". كتب كانط مؤلفه في نهاية القرن الثامن عشر أي في وقت سابق لأوانه، وهو ما يفسر لنا لماذا تم نسيانه ولم تتم استعادته إلا في القرن العشرين، فالفيلسوف كانط والمعروف بتفاؤله الكبير، وإيمانه الشديد بعقل الإنسان وقدرته على صناعة السلم. وبحسه الاستشرافي الهائل، فتح السياسة نحو العالمية "الكوزموبوليتيك" مؤكدا أن البشرية سائرة نحو "اتحاد عالمي"، أو "حلف للأمم" سيكون كتعاقد مشترك يحول دون حدوث الحروب التي تمزق البشرية وتحط من إنسانيتها وتهوي بها إلى حضيض البهيمية. سنسعى في مقالنا هذا إلى إلقاء نظرة على كتاب كانط، مركزين على البنود التي يرى فيها السبيل الآمن نحو السلام البشري في الأرض. لقد وضع كانط في القسم الأول من كتابه بنودا سلبية هي مثل النواهي التي على الدول تجنبها، كما أضاف إليها بنودا أخرى في القسم الثاني هي مثل شروط إيجابية للسلم وذلك كالآتي: أ - النواهي: 1 - الإرادة الطيبة يقول كانط "إن معاهدة من معاهدات السلام لا تعد معاهدة إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب في المستقبل" فسلوك الدول يجب أن يكون أخلاقيا كسلوك الأفراد وقائما على إرادة طيبة ونية صافية، فمثلا ينبغي ألا تنطوي السريرة على الرغبة في انتهاز الفرصة المناسبة في المستقبل، فتعاقد السلام يجب أن تقضي على جميع أسباب الحرب الممكنة. 2 - يجب عدم استغلال دولة أخرى يقول كانط: "إن أي دولة مستقلة، صغيرة كانت أو كبيرة، لا يجوز أن تملكها دولة أخرى، بطريق الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة" فالدولة ليست شيئا من الأشياء أو متاعا يستخدم كوسيلة أو جسرا يسخر للخدمة أو سلعة تستهلك على الهوى، بل هي مثل شخص معنوي كامل الأركان، أي كجماعة إنسانية لها الكرامة والعزة بحيث لا يحل لأحد سواها أن يفرض سلطانه عليها أو يتصرف في شؤونها. ويقدم كانط تشبيها رائعا إذ يقول: "الدولة كجذع شجرة لها أصولها الخاصة، وإدماجها في دولة أخرى كما لو كانت نباتا يطعم به نبات آخر، معناه تجريدها من وجودها باعتبارها شخصا معنويا". ولعل أهم ما في هذه المادة هو ما نسميه بلغتنا المعاصرة "حق تقرير المصير". #2# 3 - العمل على إلغاء الجيوش على مر الزمن إن وجود الجيش بحسب كانط يعني الاستعداد الدائم للحرب، وهو ما ينطبق حتى على الأفراد، فإذا ما كنت معك، ولديك سلاح، فأكيد سيكون جو الثقة مفقودا بيننا، ناهيك عن أن سباق التسلح بين الشعوب فيه استنزاف لموارد الدولة، إن دعوة كانط هذه شبيهة بما يسمى في عصرنا "سياسة نزع السلاح والحد منه". 4 - القروض يجب توجيهها نحو التنمية الاقتصادية وليس نحو التسلح إن الدولة التي تقترض من أجل العسكرة تعمل من حيث لا تحتسب إلى تدمير نفسها وتدمير الدولة المتحارب معها لأن في الحرب تكون الخسارة للجميع، فعوضا عن ذلك ينبغي للدولة أن توجه القروض نحو تحسين اقتصادها الوطني وذلك بتجويد الطرق وتخزين المحاصيل والعمل على كل ما من شأنه أن يجعل الدولة تصمد في السنين العجاف وتستمر في اللحظات الصعبة المستقبلية. 5 - عدم التدخل في شؤون دولة أخرى يقول كانط: "لا يجوز لأي دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها"، فكانط يركز في هذه المادة على وجوب احترام استقلالية الدولة وضمان حقها في التصرف في شؤونها الداخلية، دون أن يفرض عليها أي توجه أو نظام من الخارج. 6 - التزام النزاهة حتى والحرب قائمة وذلك بتجنب الأعمال العدائية من قتل المدنيين أو التسميم أو الخيانة. أي على الحرب أن تكون نبيلة لترك الباب مفتوحا نحو الثقة والتصالح المستقبلي، لأن الأفاعيل الشنعاء لا تنتهي مع الحرب بل تبقى محفورة في النفس ما يولد إرادة الانتقام المؤجل. إن هذه المادة تبرز نزعة كانط الإنسانية، فحتى في أحلك اللحظات البشرية وهي الحرب يجب على الدول عدم اللجوء إلى الأساليب المنحطة، بل يجب الحفاظ على النبل الكافي لضمان معاهدة سلام دون ضغائن تسبب جروحا أخرى. ب ـــ الشروط الإيجابية للسلم 1 - على كل دولة أن يكون دستورها جمهوريا إن معنى الجمهوري عند كانط ليس مقابلا لمعنى الملكي، فكانط لا يناوئ الملوك وإنما يريدهم أن يكونوا ممثلين للإرادة العامة للشعب ويقصد كانط بهذه المادة أن المواطنين في أي دولة كانت، عليهم أن يخضعوا لقوانين هم مشرعوها. #3# 2 - العمل على قيام اتحاد بين دول حرة إن هذه المادة هي التي تجعل من الفيلسوف كانط ينتمي إلى فلسفة التعاقد الاجتماعي وبالضبط مع هوبز وروسو، حيث سينقل نظريته من مستوى الأفراد داخل دولة قطرية واحدة إلى المستوى العالمي بين الدول كافة، أي بعبارة أخرى سيرى كانط أن على الدول العمل على الخروج من حالة الطبيعة نحو حالة التعاقد، فالدول تشبه الأفراد في حالة الطبيعة حيث يغيب القانون وتسود الحرب والفوضى، وإمكانية الاعتداء على دولة أخرى وارد دائما، ولذلك لا بد لضمان الأمن والسلم التنازل عن القوة لمصلحة دستور عالمي متفق حوله على شاكلة "جامعة أمم". فالدول عليها أن تتحد فيما بينها ولكن لا يعني ذلك الاندماج في دولة واحدة، لأن كل دولة هي عبارة عن حاكم وشعب، فلو أن شعوبا عديدة انضوت تحت لواء دولة واحدة لأصبحت شعبا واحدا وهذا تناقض، فكل دولة هي شخص معنوي مخالف لدولة أخرى، فالاتحاد لا يعني الاندماج والذوبان أبدا. إذن مع كانط لا سبيل للدول كي تخرج من حالة الحرب إلا أن تتخلى كالأفراد عن حريتها الجامحة والهوجاء وأن تذعن للقرارات المشتركة والاتفاقات المتعاقد عليها، فتشكل بذلك حلفا للسلام و"جامعة أمم" تنمو على الدوام حتى تشمل آخر الأمر شعوب الأرض جميعا. 3 - المواطنة العالمية بمعنى ضمان حق النزيل الأجنبي وإكرام مثواه، في هذه المادة النهائية لتحقيق السلام يتحدث كانط ليس عن المحبة بين الناس بل عن حق الإكرام أي حق كل أجنبي في ألا يعامل معاملة العدو في البلد الذي يحل فيه مادام أنه مسالم ولا يضر مصلحتها ويحترم قوانينها. يؤكد كانط أنه ما دام أن سطح الأرض دائري فقد استحال على الناس أن ينتشروا في الأرض انتشارا لا حد له، وكان لا بد من أن يلتقوا وأن يتحملوا مجاورة بعضهم بعضا، كما يرى كانط أن لكل إنسان حق الزيارة لكل بقاع العالم، إذ الأصل أن الأرض مشاع بينهم وليس لأحد أكثر من نصيب غيره خاصة المناطق غير المعمورة منها. إن الدول شأنها شأن الأفراد تظل على بداوتها الأولى في حالة حرب، ولا مخرج عنده إلا بإنشاء قانون دولي وتحالف بين الشعوب ومن ثم نخلص إلى أن مسألة السلم العالمي ليست أمرا جاهزا بل هي صناعة تحتاج إلى وقت طويل وجهد بشري كبيرين. نعم لقد تحققت بعض أماني كانط، أولا بظهور "عصبة الأمم" سنة 1919 وثانيا بتطورها إلى "هيئة الأمم المتحدة" سنة 1945، لكن لا يزال الأمر يحتاج إلى مزيد من الترشيد والفاعلية، فهل سيفلح الإنسان في تحقيق طموحه، أم أن الأمر مجرد أضغاث أحلام، فيبقى مشهد السلم العالمي أملا لن يتحقق إلا في ذهن فيلسوف مثل كانط؟
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون