Author

عشرينية حتى الممات ..

|
منذ أن كنت طفلة صغيرة في الخامسة من عمري أذهب للمستوصفات حال مرضي و أنا أرى صفوف النساء اللاتي قبلنا يحجزن موعداً عند الطبيب يجاوبن نفس الاجابة عند سؤالهن عن أعمارهن .."عمري أربعين". و ما أبعدني عن رقم أربعين ! كنت أتأمل أشكالهن ما بين رشيقات جميلات و أخريات سمينات ، بعضهن يستطعن الوقوف و المشي بشكل سوي و أخريات لا تكاد أرجلهن أن تحملهن . بعضهن يتكلم كأمي و بعضهن يتصرف مثل جدتي ولكنهن جميعا أربيعينيات ! طالما جذبني هذا المشهد مرات و مرات . في باديء الأمر كنت أظن ان الأعمار تتوقف عند أرقام الأربعين ، فلا نستطيع أن نكمل بقية الأرقام كلها أعمار.. لن نستطيع بلوغ التسعين و المئة كما تحكي لنا أمي عن العجائز في الحكايات. و عندما أعود للمنزل بعد كل موقف أراه خارجه كنتُ أحادث نفسي و أتخيل مراحل حياتي المقبلة كيف ستكون و أنا أنتظرها بفارغ الصبر من الابتدائية مرورا بالمتوسطة و حتّى المرحلة الثانوية عندها سأكون في الثامنة عشرة من عمري و بعدها سألتحق بالجامعة حينما أصل للعشرينات و تلك مرحلة بعيدة جداً في ناظري لم أفكر بها حتى ، وبطبيعة الحال لم أفكر بما بعد ذلك ، لم أفكر كيف يمكن أن يكون شكل حياتي بعد الثامنة عشر و كيف سيكون شكلي في سن الأربعين. وفي محل أي من تلك النسوة سأكون ؟ الرشيقة أم السمينة أم سأصبح مريضة لا أقوى على الوقوف؟ هل سينتهي عمري عند الأربعين حيث سأكبر و أصبح امراءة ثم جدة و أموت ! و لكن في مرحلة متقدمة و حينما التحقت بالمدرسة عرفت أن هناك اختلاف بيننا بالرغم من أننا في نفس الصف و نفس العمر. فمنا الطويلة و أخرى القصيرة و السمينة و النحيلة و الرقيقة و الخشنة في تعاملها و أيقنت فعلاً أن هناك اختلاف حتى بين الكبار ! كبرت وأنا لازلت أمرض و أقف في ذات الصف و لكنني هذه المرة قد انتقلت لعيادة أخرى ؛ فبدلا من أن أكون عند طبيب الأطفال جعلوني أذهب للطبيبة العامة مع النسوة الأربعينات ! يا له من خبر ! بدأت الهواجس تصيبني ، تأخذني فكرة و تأتِ بي أخرى . هل انتهيت ، هل انضممت إلى صفوف النساء ؟ ألا يوجد طبيب للصغيرات أمثالي ؟ أنا لست بطفلة و لكني لست بامرأة مثلهن أيضا ! بدأت أنظر لنفسي في المرايا التي تواجهني لأنظر كيف يبدو شكلي ، من سيراني هل سيصنفني طلفة أم امرأة أربعينية ! لم أعد أمكث في انتظار الرجال مع أبي و لم أعد أصمت حينما يوجه أحدهم لي سؤالا لا أعرف ما جوابه .. باختصار لم أعد طفلة و أصبحت كبيرة و لكنني لست بكبيرة !! أسمع قصص هؤلاء النسوة اللاتي لا يكفّن عن الحديث حتى في حالات مرضهن و انتظارهن الطبيب ، حتى و هن لا يعرفن بعضهن البعض . كلما دخلت إحداهن تسلم، أرد السلام عليها و أتمنى ألا تجلس جواري فتحدثني بمالا أفقه و لا أبالي فأخجل من الرد عليها . فليس لي تجارب مع خادمات هاربات أو مع أطفال مرضوا بعد التطعيم و لا مع أخبار و مفاسد الجوالات والاتصالات التي كانت تشغل العامة آنذاك. خرجت هذه المرة من العيادة و أنا أحاول أن أميّز بين الصغيرات اللاتي في عمري و اللاتي أكبر مني و بين النساء الكبيرات . بالطبع لم يكن ما حدث لي هو النهاية ، فمعظم زميلاتي لم يعدن أطفالا و غيّرن كثيرا مما اعتدن عليه . لم نعد نذهب للبقالة و نستمتع بحرّية الاختيار و لم نعد نفرح بالملاهي و ألعاب الصغار و لا يصطحبنا آباءنا في مشاوريهم بعد اليوم . تعدينا هذه المرحلة إلى مرحلة أهم و لكن قبل ذلك كان لابد عليّ أن أرتب المراحل في ذهني كي أتنبأ بالقادم ، كي لا أصدم مع كل مرحلة و كل تغيير . مرت الأيام حتى بلغت الخامسة عشرة و بلغت والدتي حينها الأربعين ! كنت أظن أن بعد الأربعين لا حياة بوجه نضر ؛ سنبلغ الخمسين سريعا و تنكمش بشراتنا ، ستبيض شعورنا و تستعصي علينا الحركة و المشي ، سنبدأ في الذبول و الخوف من سقوط أسناننا سنرتدي الطرحة في المنزل لنواري عيوبنا و نلبس الجلاليب القديمة كي نستعد لأن نشيخ ، ستتغير لهجاتنا و تتراجع أفكارنا و نصبح نسخة من جدتي ! ولكنني فجعت عندما بلغت خالتي في العالم ذاته سن الخمسين ! لم يبد عليها شيء من ذلك كله ، لم تغير لباسها و لم تنبت لها الشعرات البيض لم و لم و لم .. تغيرت المفاهيم لديّ و أصبحتُ أكثر قدرة على التمييز ما بين الأعمار . و لكن ما وضع النسوة اللاتي لازلت أشاهدهن و هن لا يكَدْن يقوين على حمل أرجلهن و هن في سن الأربعين ! بت أرى النساء كلهن أربعينيات جميلات يتباهين بأنفسهن و يزعمن بأنه لو رآهن الغريب لظن أنهن صبيات في مقتبل العمر. الغريب في الأمر أنهن لا يصرحن بأعمارهن الحقيقية ، ولكن يخدعن من ؟ أحفادهن أم أبناءهن الذين بدوا رجالا .. كنت أتهكم عليهن في نفسي كلما عرفت حقيقة إحداهن .. هناك كذبة اخترعنها وصدقنها ليواسين بها أنفسهن تماماً كما صدمت بنفسي عندما استيقظت على واقع أنني لست طفلة . لم أكن أدرك - ولازلت لا أدرك- أن الدنيا تمر بنا سريعا و تسلب منا الكثير من الأوقات التي نؤجلها و لا نعيشها لنصدم بالواقع الذي قد تجاوزها و رحل سريعا . أشخاص كنا نود المكوث معهم أطول ،و آخرون كنا نود أن نقول لهم وداعاً و آخرون كنا نتمنى أن نصلح ما بيننا و بينهم قبل أن تحول الأيام بيننا و لكن الوقت لا ينتظر أحد. كم من الفرص تضيع كل يوم و كم من المشاريع تؤجل و كم من الزيارات و الواجبات تسوف للغد و لبعده ، أشياء كثيرة تمضي دون أن نرمقها ولو بنظرة، و أحداث عديدة تمر دون أن يتاح لنا فرصة المشاركة فيها بحجة الانشغال بأمور أهم . و تمر الأيام و الأشخاص و المناسبات و لازلنا نعتذر بانشغالنا بأمور مهمة ، وقد يضيع منا العمر بأكمله دون أن نعيشه إن استمر انشغالنا ذاك . ها أنا اليوم وجدت نفسي أخشى الدخول في عمر العشرين ، لازلت متشبثة بآخر شهر و آخر يوم قبل العشرينات ، لا أعلم كيف حدث ذلك و تسربت كل تلك الأعوام مني دون أن أشعر ! في زيارتي الأخيرة للمستوصف سألت الموظفة أمي كم عمر ابنتكِ فأجابتها أنني في العشرين ، لا أدري ما الذي استفزني ساعتها و جعلني أتمنى أن أصرخ بصوت عال لا .. لازلت في التاسعة عشر لم أبلغ العشرين بعد، تبقى شهران لأصل العشرين ! لازلت لم أعش مراهقتي كما كنت أريد ، لا تزال على قائمتي الكثير من الأمور المؤجلة التي لم أقم بها بعد ، هناك طيش لم أعشه ، انجاز لم أحققه ، صداقات انقطعت و لم تعد بعد ، واجبات أهملتها تجاه نفسي ، ربي ، أسرتي ، ديني ، هناك الكثير من الأشياء تنتظرني أن أحققها قبل بلوغي العشرين. ربما ينبغي لي ألا أصرخ في وجهها و أصرخ في وجه ذاتي "كفى "!! تعجبت من هذا الحال الذي يجعلني أخشى الكبر بالرغم من أنني كنت أتوق لأن أراني كبيرة ؟ مالذي يتغير في نفوسنا حينما نرى الزمن يجري دون أن نعيش كل لحظة منه كما ينبغي ، ساعتها شعرت بالشعور ذاته الذي كان يراود النساء الكبيرات و ربما أكثر .. هن قررن أن يتوقفن عند الأربعين قررن ألا يعترفن بالوقت مهما دارت عقارب الساعات أمامهن آلاف المرات ، قررنّ ألا يتركن الزمن يسرق منهن المزيد و المزيد من الأشياء الجميلة ، قررنّ أن يقفنّ عند سن الشباب و لا شيء بعد الشباب . أما أنا فأخشى كل عام يزداد لعمري دون أن أشعر به ، أخشى أن أكون نسخة من أي شخص بلغ منه الكبر مبلغه دون أن يستغل شبابه. لن أنتظر حتى أبلغ الأربعين لأوقف كل هذا الوقت الذي ينزف و أنا التي تخشى الشيخوخة أكثر من أي شخص رأيته، لن أنتظر أن أقول متحسرة " ألا ليت الشباب يعود يوما" لن أنتظر الغد حتى أبكي على اليوم فأفقد لذة اليوم و الغد معا ؛ لذا قررت أن أتوقف عند العشرين حتى الممات !
إنشرها