Author

الثورة الرقمية بين الدبلوماسية والحرب

|
تقول "هيلاري كلينتون"، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، المرشحة المتوقعة القادمة للحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية القادمة، في كتابها الأخير "خيارات صعبة"، وهي تحدثنا عما تسميه بالوجه المظلم للثورة الرقمية: "إن الإنترنت مصدر للمعلومات الخاطئة تماما كما هي مصدر لمعلومات صحيحة، لكن هذه هي البداية فقط. فالإرهابيون، والمجموعات المتطرفة تستخدم الإنترنت للتحريض على الكراهية، وللتجنيد، وحياكة المؤامرات وتنفيذ الهجمات"، وتستمر في سردها لسلبيات التقنية الحديثة عبر الباب السادس لكتابها، الذي حمل اسم "المستقبل الذي نريد"، حيث تناولت موضوع الجرائم الإلكترونية، كاستخدام الأطفال في الدعارة، والترويج لذلك، أو عمليات الاختراقات للبريد الإلكتروني الشخصي، أو الحسابات المصرفية، وصولا إلى السيطرة والتحكم في نظم الملاحة الجوية وغيرها. كما تطرقت، عبر الفصل الرابع من هذا الباب، لموضوع الهجمات الإلكترونية على وزارة الخارجية الأمريكية في الفضاء السايبيري Cyber attacks، وعمليات التجسس.. تقول كلينتون تحت عنوان الدبلوماسية الرقمية في العالم الشبكي: "عندما نسافر لأماكن حساسة كروسيا مثلا؛ فإننا نتلقى في العادة تحذيرات من المسؤولين الأمنيين بضرورة ترك أجهزة (البلاك بيري، واللاب توب) وأي شيء آخر من الممكن أن يتصل بالعالم الخارجي، تركها مقفلة في طائرتنا، مع إخراج البطاريات منها، وذلك لمنع أجهزة الاستخبارات الأجنبية من الوصول إليها، أو المساس بها. وحتى في البيئات الصديقة، فإننا نقوم بأعمالنا في ظل احتياطات أمنية صارمة، بحيث نأخذ حذرنا، أين وكيف نقرأ المضامين والمواد السرية، وكيف نستخدم وسائل التقنية الحديثة. إن أحد المعاني التي تشرح المقصود بحماية السرية هي القراءة داخل خيمة غير شفافة في غرفة الفندق. وفي حالات نكون فيها غير مجهزين بشكل جيد، فإنه يطلب منا إن أردنا قراءة مواد ومضامين حساسة، أن نقرأها تحت البطانيات التي تغطي رؤوسنا مع مصباح يدوي خافت... وفي أكثر من مناسبة، جرى تحذيري بعدم الحديث بحرية في غرفتي داخل الفنادق التي نقيم فيها في زياراتنا الرسمية أو الودية"! هذا هو إذن "الوجه المظلم" لمفهوم "الدبلوماسية الرقمية"، فيما كان الوجه المشرق من وجهة نظر الخارجية الأمريكية ممثلة بوزيرتها السابقة "كلينتون"، هو ما تناولته في مقالتي السابقتين. نستنتج من ذلك أن الفهم الأمريكي الرسمي لـ "الدبلوماسية الرقمية" هو فهم مشوه في الواقع! حيث لا تعدو "الدبلوماسية الرقمية" ــ وفق هذا المفهوم ــ وسيلة للتجسس، أو التخريب، والتآمر، أو تجنيد الإرهابيين، في وجهها السلبي. أوــ على أحسن الاحتمالات ــ وسيلة للاختراق، والسيطرة، والتحكم في شعوب الدول الأجنبية بما يخدم ما تراه الإدارة الأمريكية يحقق أهدافها، وهو ما تسميه كلينتون بالوجه المشرق أو "الإيجابي"! بغض النظر عما إن كان هذا الاستخدام "الإيجابي" المزعوم، يصب بالفعل في تحقيق المصالح الحقيقية للشعب الأمريكي، أم أنها تعكس أهدافا متصورة، ومصالح "مفترضة" من وجهة النظر القاصرة ربما، أو الضيقة، والأنانية، لصانع القرار الأمريكي، التي قد تتسبب في نتائج عكسية ــ بحسب ما يراه باحثون أمريكيون مختصون بالدبلوماسية الشعبية، التي تأتي الدبلوماسية الرقمية كفرع عنها. لقد أبدى هؤلاء الباحثون انتقاداتهم الواسعة لطريقة التعاطي الأمريكي الرسمي الحالي للعمل الدبلوماسي الشعبي، التي لا أراها سوى نوع من أنواع الحروب الرقمية، التي لا تمت للدبلوماسية الشعبية بصلة، وهو ما ذهب إليه الباحث الأمريكي فؤاد أزادي في دراسته التحليلية النقدية التي تناولت ممارسات دبلوماسية الولايات المتحدة الشعبية U.S. Public Diplomacy، حيث وجد أن الجهود التي بذلتها أمريكا كانت في الأساس مشخصة بطريقة التدفق باتجاه واحد، وبشكل أناني لا يأخذ في الحسبان مصالح جميع الأطراف، مستخدما نظريات السيطرة والتحكم والخصوصية الأمريكية والاستشراق والثقافة الإمبريالية التوسعية. أي أنها لا تتجاوز مفهوم "الحروب الدعائية" السيئة الصيت، بل هي في حد ذاتها لعبة دعائية تستخدم اسم "الدبلوماسية الشعبية" كمجرد شعار، للتلطيف، والتغطية، والتورية عن الاسم الحقيقي، ألا وهو "الحرب الدعائية"، وهو ما انسحب ــ تبعا ــ على تشويه مفهوم "الدبلوماسية الرقمية" الراقي، حين أطلقت "هيلاري" هذا الوصف على تلك الاستخدامات غير النبيلة لشبكة الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، للتغطية على الاسم الحقيقي لهذه الاستخدامات والتطبيقات، ألا وهو "الحرب الرقمية" لا "الدبلوماسية الرقمية"! وشتان بين المصطلحين، إنه الفرق بين الثرى والثريا، بين الخير والشر، بين التعاون والأنانية، بين الحوار والصراع، بين الحرب والسلام! لقد اقترح أزادي أن تتحرك الدبلوماسية الشعبية الأمريكية متجاوزة حدود "الدعاية"، خاصة أن العلماء انتقدوا الممارسات الأمريكية الحالية للعمل الدبلوماسي الشعبي، القائمة على نماذج الحرب الباردة للاتصالات، المعتمدة على أسلوب طريق الاتصال الواحد، والأهداف الأنانية، وأنها بحاجة إلى مزج طريقين متماثلين للاتصال، مواصلين انتقادهم للدبلوماسية الشعبية الأمريكية كونها لم تستخدم أداة لبناء العلاقات التناظرية المتماثلة والمتوازنة مع الشعوب الأجنبية. ويشرح أزادي مفهوم التماثل أو التوازن في الاتصال بحسب نظرية "الامتياز" في العلاقات العامة الدولية، بأنها تعني "أن على كلا الطرفين (حكومة الولايات المتحدة وشعبها) الانفتاح على التغيير إذا كان هذا التغيير يذهب بعيدا نحو تحقيق المصالح المتبادلة لجميع الأطراف". كما يجب أن ترتبط الدبلوماسية الشعبية بالسلوك الواقعي، وألا تنطوي الاتصالات على المحادثات والحوار فقط، بل تمتد نتائج مثل هذه المراسلات المتبادلة على الواقع بحيث يؤخذ في الاعتبار وجهات نظر الأطراف الأخرى. لقد قام وانق Wang في دراسته المهمة المعنونة بـ "إدارة العلاقات الدولية في عصر العولمة: إعادة النظر في الدبلوماسية الشعبية"، قام باستعراض سلسلة من الدراسات التاريخية الوظيفية لجهود الدبلوماسية الشعبية الأمريكية التي تركز بشكل رئيس على اثنتين من المؤسسات الدبلوماسية الشعبية الأمريكية وممارساتها: لجنة المعلومات العامة CPI، ووكالة المعلومات الأمريكية USIA. كما قام بمراجعة مجموعة أخرى من الأبحاث الحديثة في حقل الدبلوماسية الشعبية التي أجراها عدد من مؤسسات الفكر والرأي Think Tanks في الولايات المتحدة وبريطانيا، كمعهد بروكينجز (2004)، ومجلس العلاقات الخارجية (2003)، ومركز السياسة الخارجية (2002)، على سبيل المثال لا الحصر، حيث تناولت هذه الأبحاث دراسة برامج دبلوماسية شعبية لبلدان غير الولايات المتحدة كفرنسا، وبريطانيا، حددت كل منها ثغرات في المفهوم والممارسة الحالية للدبلوماسية الشعبية، وقامت بمعالجة وتحديد احتياجات الاتصالات لتعزيز الدبلوماسية الشعبية. وقد توصل لنتيجة مؤداها أن الدبلوماسية الشعبية ليست مجرد تعزيز الأهداف السياسية والاقتصادية التي تسعى دولة ما للوصول لها بغض النظر عن مصالح الدول والشعوب الأخرى، ودعوة الرأي العام الدولي لقبولها وتبنيها، بل هي، بدلا من ذلك، تتجه نحو بناء العلاقات بين الأمم والثقافات من خلال تحسين التواصل فيما بينها لتكوين مناخ من التفاعل البيني والتفاهمات، وهذه هي الدبلوماسية الشعبية النبيلة ــ التي تأتي الدبلوماسية الرقمية كفرع عنها ــ والتي ندعو لها دوما، تلك الدبلوماسية الخيرة الحكيمة، التي تهمش ديمقراطية التعالي، وتتيح الباب واسعا لديمقراطية الحوار التي تبناها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من منطلق الحوار بين الحضارات، وتعاونها في خدمة الإنسانية جمعاء، إنها تعكس نبل قيمنا وتقاليدنا العربية والإسلامية والإنسانية الأصيلة.
إنشرها