Author

ثقافة المظهرجية

|
كنت واقفا أمام أحد المحاسبين في إحدى الأسواق التجارية، وأمامي سيدة ترافقها إحدى الخادمات تحاسب على أغراضها، لكن ما إن أكمل المحاسب عمله حتى أمرت السيدة الخادمة بإخراج المبلغ من المحفظة التي تحملها، وبالفعل نفذت الخادمة ما طلب منها، وأخرجت رزمة من فئة الخمسمائة ريال، وقدمتها للمحاسب. استوقفني هذا التصرف فتساءلت هل هذا تصرف فردي أملته المصادفة، أم أنه ذو دلالة على صاحبه، أو صاحبته في هذا الموقف؟ للإجابة عن هذا السؤال يلزم معرفة إن كان هناك تصرفات من هذا القبيل، ومن يقدم عليها، وهل له دلالة نفسية تكمن وراء التصرف، وتمثل عاملا مشتركا فيما بينهم؟! تنزل الطالبة في الجامعة وتنزل معها الخادمة حاملة حقيبتها، وكتبها، وأوراقها كافة. كأن الخادمة هي الطالبة، وينزل السائق من السيارة مسرعا ليفتح الباب للطالب، ويحمل حقيبته حتى يوصله باب المدرسة، من المشاهد أيضا ما نراه في الأسواق حين نرى المتسوقة يسير خلفها جيش من الخادمات، علما بأنه لا يوجد معهم أطفال، يمكن تبرير هذا العدد، كما لا تتبين المهام التي تقوم بها الخادمات في السوق. صورة أخرى من المظاهر ما نراه حين يدخل المرء على مجلس، وفي يده هاتفان، وعند أخذه مكانه يبدأ يقلبهما يفتح هذا، ويغلق الآخر، ويستقبل مكالمة بهذا، وأخرى بذاك، كما أن من المشاهد محاولات البعض الحديث أمام الآخرين عن معرفته ذلك المسؤول، أو ذلك الوجيه، أو أنه تربطه علاقة قرابة به، ويضاف إلى ما سبق ما يتكرر على المسامع في الإذاعة، أو التلفزيون، أو ما يقرأ في الصحافة حين يستضاف أديب، أو كاتب أو متخصص في مجال من المجالات، إذ تتكرر عبارة المفكر المعروف، أو الشاعر المعروف، أو رجل الأعمال المعروف، والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه إذا كان معروفا فلماذا يتكرر ذكر هذه العبارة وبشكل ممل، ومنفر للسامع، أو القارئ؟ ترى لماذا نتصرف، أو يتصرف البعض هكذا؟! على المستوى الفردي يمكن تفسير ذلك بضعف داخلي، وعدم ثقة بالنفس خاصة عند أولئك الذين يذكرون أنهم يعرفون فلانا من الناس، لذا هم يرون في هذا الأسلوب عند مخاطبة الآخرين قوة لهم، وحماية، حيث يحتمون بهم، وبهذا الأسلوب يحققون ما يريدون، أو يتجنبون ما يمكن أن يحدث لهم من أضرار. وبالمبدأ النفسي نفسه يمكن تفسير التصرفات الأخرى، إذ إن حالة الضعف الداخلي تقود صاحبها إلى استعراض جوالاته، أو المشي داخل السوق، وخلفها جيش من الخادمات، أو النزول من السيارة وفتح الباب من قبل السائق، وحمله الحقيبة المدرسية، وكأنه يقول لزملائه انظروا إليّ أنا أفضل منكم حيث أحظى بالخدمة، وأنتم لستم كذلك. هذه السلوكيات تحدث من الصغار، والكبار، ومن الجنسين، ومن الأغنياء، ومحدودي الدخل ذلك لأن الباعث، والمحرك لها حاجة نفسية يرى الفرد أن هذا هو الأسلوب المناسب لإشباعها، ويعزز التصرفات الفردية عملية التغاير بين الأفراد، أو الأسر حتى أن هذه الأفعال تتحول إلى ما يشبه الظواهر الاجتماعية، حتى أن بعضها يكون في فترة من الزمن أشبه بالثقافة التي تنتشر عند فئة عمرية، أو فئة مهنية، أو عند أحد الجنسين، ويمكن أن أسميها بثقافة المظهرجية، التي لا شك أن أثرها السلبي عميق سواء كان اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو نفسيا، ذلك لأن الاهتمام بالمظاهر والقشور يصرف الفرد عن الاهتمام بالأمور المهمة والجوهرية وفي هذا يقع الضرر على الفرد والمجتمع. مع هذه المظاهر يجب أن نسأل وبلا مواربة، هل شخص نشأ على هذا الوضع لديه الرغبة والقدرة على بذل الجهد والعطاء؟! بذل الجهد والعطاء يتطلب بناء نفسيا صلبا، وهذا لا يتحقق مع عدم ممارسة الفرد للمهام بنفسه وتعرضه للظروف كافة، الناعم منها والخشن، والصعب والسهل، ولنا في المثل القائل ما حك جلدك مثل ظفرك منطلق تربوي سليم، فالخبرة، ومباشرة الفرد للأمور تصقله وتبني شخصيته، ما يمكنه من الوقوف في وجه التحديات التي قد تصادفه في ظروف لا يجد فيها من يؤدي له المهام نيابة عنه. هل يوجد في المجتمعات الأخرى مثل هذه السلوكيات؟ الإجابة نعم، فهم بشر لكن الثقافة العامة تستهجنها وتحد منها، وتعزز الجدية، وإذا حدثت تكون بصورة محدودة وليست بالصورة المبالغ فيها والبشعة، لأن المناخ الاجتماعي العام لا يشجع عليها بل يرفضها.
إنشرها