Author

ما المأمول من الميزانية؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
إنه الحدث الاقتصادي والمالي الذي يتكرر نهاية كل عام مالي في أغلب بلدان العالم، ويأخذ أهمية أكبر من غيره في البلدان التي تعتمد على الإنفاق الحكومي. بالطبع تأتي المملكة في مقدّمة تلك البلدان التي يُشكّل الإنفاق الحكومي فيها الثقل الأكبر بين مختلف بقية المتغيرات الاقتصادية والمالية، راوحت معدلاته إلى إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة 2009-2013 بين 32.0 في المائة إلى 37.4 في المائة، ويتوقّع أن يُسجّل بنهاية العام الجاري معدلا يفوق الحد الأعلى لتلك الفترة، ليصل إلى 38.5 في المائة! طالما أدى الإنفاق الحكومي الدور الرئيس طوال العقود الأربعة ونصف العقد الماضية، وعلى أن خطط التنمية التي ينتهي عمر دورتها التاسعة بنهاية هذا العام، وتبدأ العام القادم دورتها العاشرة، أقول على الرغم من استهداف تلك الخط التنموية زيادة الاعتماد على القطاع الخاص، وأن يكون هذه القطاع هو المصدر الأكبر لتنوّع القاعدة الإنتاجية والنمو والاستقرار الاقتصاديين، وصولا إلى الهدف المنشود بأن يتحوّل الاقتصاد الوطني إلى آلةٍ عملاقة على مستوى الإنتاج والتوظيف وزيادة الدخل، وليصبح بدوره الداعم والممول الأهم للميزانية العامّة - إلا أنّ شيئا من هذا لم يُنجز منه إلا القليل وغير الكافي. حدث كل ذلك على طريق طويل زمنيا قارب نصف قرنٍ من الزمن! فلا نزال رغم كل تلك العقود الطويلة من الخطط والبرامج التنموية، نكاد نقف عند نقطة البداية، فالاقتصاد الوطني لا يزال يعتمد بالدرجة الأولى على الإنفاق الحكومي، والإنفاق الحكومي لا يزال يعتمد بدوره على إيرادات النفط بأكثر من 90.0 في المائة من إجمالي إيراداته. بل كان لافتا أنّ اعتماد الميزانية على الإيرادات النفطية، قد زاد خلال الأعوامٍ العشرة الأخيرة إلى نحو 89.6 في المائة من إجمالي الإيرادات (بلغ الإجمالي 8.15 تريليون ريال)، مقارنة بنحو 78.7 في المائة خلال الفترة 1969-2003 (إجمالي إيرادات 5.3 تريليون ريال)، وهو عكس ما كان مخططا له من قبل مخطوطات التنمية والبرامج والسياسات الموضوعة. حينما تتراجع مستويات أسعار النفط كما هو قائمٌ في المرحلة الراهنة، تبدأ أصوات أجراس الإنذار في الارتفاع، لتذكّر بهذه الجوانب العالية الأهمية، رغم أنه كان من الأفضل الاستماع إليها في أوقات سابقة وعدم تجاهلها، ليُسر التعامل معها بما يجب اتخاذه من تدابير وإجراءات أكثر مرونة. هذا هو الهدف الأول المأمول من الميزانية العامة، أن يعود العمل الحثيث إلى منحها استقلالية أكبر عن إيرادات النفط المتقلبة وغير المضمونة، لتتزود أغلب قوتها من إيرادات النشاط الاقتصادي المنتج محليا، والذي يعني بدوره تعزيزا للإيرادات الضريبية المستقطعة من هوامش أرباح القطاع الخاص! وهو الطريق البعيد تحققه في الوقت الراهن وفقا للظروف الراهنة التي لا يزال هذا القطاع الهش القاعدة يقف على أرضيتها؛ حيث لا يزال القطاع الخاص يعاني: (1) زيادة اعتماده المفرط على الدعم الحكومي ضمن سياسات التحفيز على مستوى أسعار الطاقة والمياه والكهرباء، والتي تكاد تُشكّل لأغلب كيانات القطاع الخاص صلب أرباحه بدءا من الشركات الكبرى وانتهاء بالشركات الصغيرة والمتوسطة. (2) زيادة اعتماده المفرط على الدخل المتأتي من عقود المناقصات مع الحكومة، بل إنّها مصدر الدخل الأهم بالنسبة لكيانات القطاع الخاص خاصة في قطاعات الإنشاء والمقاولات والصيانة والخدمات (بلغ إجمالي الإنفاق الرأسمالي للفترة 2004-2013 أكثر من 1.6 تريليون ريال). (3) زيادة اعتماد القطاع الخاص على الاستيراد بالجملة من الخارج، والبيع بالتجزئة في السوق المحلية، عوضا عن قيامه بالإنتاج والتصنيع المحلي، وفي الوقت ذاته الذي تجده يستفيد من المحفزين المذكورين أعلاه، تجد اعتماده على استقدام العمالة الوافدة المنخفضة الأجور يزاد عاما بعد عام. هذه أبرز ثلاث سمات رئيسة تبيّن وتكشف لك حجم الضعف الذي تعانيه كيانات القطاع الخاص، والتي لا بد من تجاوزها وفق إجراءات وبرامج محددة زمنيا لا تلحق الضرر به وبالاستقرار الاقتصادي، حتى تصل إلى الهدف المنشود؛ ليتحوّل هذا القطاع إلى رافد له وزنه وثقله الحقيقي في مجال قدرته وكفاءته على دعم الاقتصاد الوطني بصفة عامّة، والميزانية الحكومية بصفة خاصة. الهدف الثاني المأمول، أن تتحقق الغايات النهائية من ذلك الإنفاق الحكومي الضخم على مشاريع التنمية والرفاهية (بلغ إجمالي الإنفاق الحكومي خلال الفترة 2003-2013 أكثر من 5.9 تريليون ريال)، وأن يتم تجاوز معضلات التعثر والتأخير التي عاناها تنفيذ مشاريع التنمية المحلية (بلغ مجموع المشاريع الحكومية للفترة 2005-2014 نحو 25.97 ألف مشروع حكومي)، ولعل ما حمله التقرير السنوي الأخير للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من مؤشرات تعثّر وتأخر تنفيذ تلك المشاريع، يوجد فيه ما يفسر بصورةٍ واضحة وجلية أسباب تفاقم (حجم الفجوة التنموية)، التي أفصحت عن أن أسباب تراجع وتدنّي مستوى الخدمات الحكومية المختلفة ناتج عن قصور الأداء، لا عن نقص الأموال التي لم تتأخّر الدولة عن ضخها بكل قوة وسخاء. وهو بالفعل ما أظهرتْه دراسات "قياس كفاءة الأداء" بالنسبة لقطاعات التعليم والخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية والنقل والخدمات البلدية والمياه والزراعة والصناعة والموارد الاقتصادية الأخرى خلال الفترة 2007-2011، التي كشفتْ عن تواضع مؤشرات أدائها بين 13.5 في المائة كحد أدنى إلى نحو 24.1 في المائة كحد أعلى، التي تعتبر دون شكٍّ نسبا متدنية جدا، لا ترتقي أبدا إلى الاعتمادات القياسية التي وقّعتها الدولة لأجل الإنماء الشامل والمستدام في البلاد. مذكرا هنا، أنّ عملية "قياس كفاءة الأداء" قامتْ على ما تمَّ إنجازه مقارنةً بالمخطط سواء في خطّة التنمية، أو في الموازنات المالية السنوية، واستهدفتْ التعرّف على مستوى كفاءة أداء جميع تلك الأجهزة الحكومية المعنيّة بما لديها من مسؤوليات ومشاريع. وتتسم عملية قياس كفاءة الأداء بالأهمية القصوى من خلال قيام الأجهزة الرقابية في الجهاز الحكومي بمثل هذه الخطوة الرقابية الضرورية جدا، واستمرارها بصفةٍ دورية، لدورها المحوري في رفْع كفاءة أداء الأجهزة الحكومية، وإحكام الرقابة على التصرّف بالمال العام، وتفعيلاً مسؤولا تجاه تلبية الاحتياجات الحقيقية للمواطن والمجتمع والوطن على حدٍّ سواء، دعْ عنك ما نصّتْ عليه خطط التنمية أو إعلانات الموازنات المالية الحكومية. كان من أهم ما أظهرته نتائج ومؤشرات عملية "قياس كفاءة الأداء" المستندة إلى الأرقام الرسمية للميزانيات وخطط التنمية، أنّ العمل على ضبط ورفع مستوى العاملين التاليين: (1) حسن الإدارة. و (2) مكافحة الفساد، هما الأداتان الواجب الإسراع في تعزيزهما، والارتقاء بمستوياتهما بصورة أكثر تركيزا وجدّية. يجب ألا يظنّ المرء هنا أنها مهمة يسيرة التنفيذ؛ إنّها تقتضي جهدا طويلا وشاقا، وعمْقا بعيدا في الكثير من التفاصيل، تبدأ مهامها من أوّل فقرة مرسومة في السياسات والبرامج الاقتصادية، مرورا بآليات تنفيذها ومتابعة تحقيقها على أرض الواقع، انتهاء بإجراءات المراقبة والمراجعة والمحاسبة. وهو ما يمكن القول عنه هنا، إنه الشغل الشاغل لدى الكثير من الكتّاب والمهتمين، يحدوها جميعها الأمل الكبير بتحقق التقدّم على مختلف مستوياتها. والله ولي التوفيق.
إنشرها