Author

مركزية التنمية .. وليس وزارة التربية والتعليم

|
هناك سيل من الاتهامات والنقد اللاذع الذي يحمل وزارة التربية والتعليم مسؤولية الحوادث المرورية التي تتعرض لها المعلمات وهن في طريقهن لتأدية واجبهن الوظيفي، وهذا اتهام باطل وغريب أو على الأقل ناقص؛ لأنه يرى المشكلة من زاوية ضيقة جدا تتعلق فقط بكون المعلمات من منسوبي الوزارة دون النظر بشمولية وعمق لأسباب المشكلة الحقيقية. وحتى على افتراض أن من يتعرض للحوادث المرورية على الطرقات هم فقط من المعلمات لا يكفي أن نشير بأصابع الاتهام إلى وزارة التربية والتعليم، فمسببات الحوادث كثيرة، وهي بكل تأكيد لا تتعلق بالخدمات التي تقدمها الوزارة. ففي واقع الأمر هناك أسباب كثيرة للحوادث؛ ولكن في مجملها تتعلق باشتراطات الأمن والسلامة مثل جودة تطبيق الأنظمة المرورية، جودة الطريق، جودة قيادة قائد المركبة، جودة المركبة، وجميعها تمثل بيئة الطريق المثالية. وعلى أن التساؤل حول انخفاض مستوى الأمن والسلامة على الطرق السريعة تساؤل مهم يتعلق بأرواح وسلامة مستخدمي الطريق، إلا أن السؤال الأهم: لماذا على المعلمات قطع مسافات بعيدة لتقديم خدمة التعليم؟ أي لماذا لا تكون المعلمات من سكان تلك المحليات البعيدة؟ والإجابة عن هذا التساؤل ترتبط بالاستراتيجية الوطنية للتنمية والعمران. وهي استراتيجية معنية بتطوير مراكز النمو الحضرية وتوزيع الخدمات العامة بهرمية مكانية، حيث يكون هناك مجموعة من الخدمات تخص كل مستوى على أن يكون هناك خدمات أساسية تضمن حدا أدنى لمستوى المعيشة وتطويرا للقاعدة الاقتصادية، حيث يمكن سكان المحليات من الحصول على دخول مجزية. ولكن مع الأسف لم يتم تطبيقها ليستمر استقطاب التنمية في المدن الكبيرة دون الاهتمام بمناطق الأطراف وتوفير الحد الأدنى الذي يشجع معظم سكانها على البقاء والعيش في مناطقهم. لذا ومع اعتذاري للشاعر العربي قيس بن الملوح في تحوير بيت من قصيدته ليصبح "وما حب الديار شغفن قلبي، ولكن حب الخدمات في الديار"، فالناس ترغب في العيش أينما تكون الوظيفة ووفرة الخدمات كما ونوعا وجودة. وعندما تتركز الخدمات في مدن بعينها يتمركز الناس فيها وتزداد كثافتهم على حساب القرى التي يهاجرون منها سعيا في الحصول على مستوى معيشي أفضل. ومستوى المعيشة ليس متعلقا بدخل الأفراد كما يظن البعض ولكن بمستوى ونوع الخدمات الحكومية المقدمة. وعندما تكون الخدمات معدومة أو متوافرة بمستوى متدن في المناطق الأقل حظا تكون طاردة، في مقابل جاذبية الخدمات في المدن الكبيرة، إضافة إلى انخفاض مستوى تكلفة المعيشة فيها، حيث لا توجد رسوم حكومية وعدم تطبيق اشتراطات المباني بشكل حازم في أطراف المدن، وهكذا تكون النتيجة توزيعا سكانيا غير متوازن. وتحقيق التوازن يستوجب توزيع الخدمات بشكل يتناسب مع التوزيع السكاني المرغوب. هذا التباعد بين مقدمي الخدمة ومستخدميها إضافة إلى أن معدل توفير الوظائف في المدن المركزية أقل من معدل تزايد السكان ما يمثل ضغطا على بعض سكان تلك المدن في قبول وظائف خارج مدنهم كما هو حال المعلمات. وعلى أن الحل يكمن في تفعيل الاستراتيجية العمرانية الوطنية لتحقيق التوازن التنموي المطلوب من خلال تطوير المدن المتوسطة والصغيرة والتنمية الريفية، إلا أن ذلك يبدو شبه مستحيل فقد مضى على الاستراتيجية منذ أُقرت أكثر من عقدين من الزمان ولم تجد حقها من التطبيق، وحتى في حال البدء في تطبيقها فإن تحقق أثرها سيستغرق وقتا طويلا، لذا يمكن البدء بخطة قصيرة المدى تقلل من عناء المعلمات وتضمن سلامتهن وراحتهن من خلال توفير وسائل نقل ذات جودة عالية ترافقها سيارة أمن الطرق من وإلى مكان العمل. كما يستلزم تحديد مدة عمل المعلمة "النساء بشكل عام" خارج المدينة بمدة محددة مثل ألا تتجاوز ثلاثة أعوام كحد أقصى، حيث يكون هناك تدوير بين المعلمات والموظفات. إن تنفيذ الخطة يستلزم تكوين هيئة تنسيقية بعضوية كل من البلديات والتربية والتعليم والأمن العام والنقل والمجالس البلدية المعنية للإشراف على تنفيذها ومتابعتها وتطويرها. فمعظم المشكلات التي نعانيها في المجتمع بسبب التشرذم الإداري، حيث تعمل كل إدارة حكومية بطريقتها، وربما تعارضت وتصادمت سياسة إحداها مع الأخرى. لقد أصبح من الضروري صياغة استراتيجية للتنمية الوطنية معنية بتحقيق تنمية متوازنة ومستدامة، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تطبيق اللامركزية ومنح المجالس النيابية المحلية مثل المجالس البلدية والمجالس المحلية والمناطق صلاحيات وسلطات أكبر ليكونوا قادرين على قيادة التنمية المحلية والبحث عن حلول إبداعية لتطوير مناطقهم ومدنهم وقراهم. والمتمعن يجد أنه ليس هناك إدارة للمدينة السعودية. والبعض يعتقد أن أمانات أو إمارات المناطق مسؤولة عن إدارة المدن، وهذا خطأ كبير لسببين، الأول أنه لا يمكن أن يكون هناك جهتان مسؤولتان عن مهمة واحدة؛ لأنه يخالف وحدة الأمر كمبدأ أصيل من مبادئ الإدارة. الثاني أن الأمانات والإمارات هي إدارات إقليمية وليست محلية؛ أي أنها مسؤولة عن شؤون المنطقة وليست المدينة. وكشاهد لغياب إدارة المدن فإن عواصم المناطق لا يوجد بها محافظون! وتركت دون هيئة محلية مسؤولة عن إدارة شؤونها بشكل شمولي. هذا الغياب لهيئات محلية تتمتع بسلطات واسعة تشمل جميع شؤون المدينة وقطاعاتها أدى إلى ضعف التنمية المحلية وضعف المشاركة الشعبية وانحسار إسهامات السكان في جهود التنمية. الحل الذي لا غنى عنه ـــ كما ذكرت سابقا ــــ هو تفعيل الاستراتيجية العمرانية من حيث الالتزام بجدية بتوزيع الخدمات الحكومية حسب حجم السكان لكل منطقة، وتحفيز القاعدة الاقتصادية، وتعزيز صلاحيات وتوسيع سلطات المجالس البلدية والمحلية والمناطق لتكون أكثر شمولية وقادرة على تطوير المدن والقرى لتكون جذابة وتسهم في التنمية الوطنية. هذا يتطلب رؤية مستقبلية ووضع سياسة للنهوض بالتنمية المحلية تستند على معايير اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية وليس بناء على مطالب وضغوط سكان المدن الكبيرة. إن كل حادث تتعرض له المعلمات هو بمثابة جرس إنذار أننا لم نقم بعد بتطوير إطار مؤسسي يسهم في إدارة وتنمية المحليات. هناك جهود جبارة تبذلها الدولة في بناء مدن عصرية وقد تحقق ذلك إلى حد كبير، ولكن حان الوقت لصناعة قرارات جريئة وجذرية وحاسمة لإعادة توزيع الخدمات والمشاريع الحكومية عبر التأسيس لتجمعات سكانية ومراكز تنموية مبنية على مقومات التنمية والإمكانات المتاحة تديرها هيئات محلية مستقلة. هكذا فقط نستطيع أن نحقق سياسة الهجرة العكسية ونخفف العبء على المدن الكبيرة ونضمن الاستقرار للمعلمات وأسرهن ونقضي على ظاهرة حوادث المعلمات.
إنشرها