Author

الصكوك الملغاة والأزمة العقارية

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
ما قامت وتقوم به وزارة العدل من جهود مباركة على مستوى إلغاء الصكوك المزورة، واسترداد أراضي الدولة التي تم الاستيلاء عليها بطرق غير مشروعة ومخالفة، أؤكد أنه يسجل في مقدمة أكبر الجهود الإصلاحية في تاريخ البلاد! يثبت ذلك حقيقةً على أرض الواقع عددا من الدلائل الواضحة البيان: (1) ضخامة مساحات الأراضي التي سيطرت عليها تلك الصكوك المزورة، حيث وصلت من خلال الرصد والمتابعة للبيانات والتصريحات الصادرة عن وزارة العدل إلى نحو 1.6 مليار متر مربع (1576 كيلو مترا مربعا)، توزعت على أهم مدن المملكة الرئيسة. وليتأكد لديك إلى أي مدى تعتبر تلك المساحات ضخمة جدا، فإنها تشكل مجتمعة من مساحة منطقة التطوير الحضري لكل من مدينة الرياض بأكملها نحو 50.6 في المائة، ومن مدينة جدة أكثر من 89.3 في المائة، ومن مدينتي الدمام والخبر نحو 115.0 في المائة، ومن مدينة مكة المكرمة نحو 131.3 في المائة. إنها بهذه المساحة الشاسعة مؤهلة تماما لأن تشكل مجتمعة مدينة كاملة بالمعنى الدقيق، وبنسبتها إلى عدد الأمتار من الأراضي التي تم تداولها خلال العام الماضي 1435، فإنها ستشكل نحو 44.0 في المائة من إجمالي مساحات الأراضي المتداولة! (2) ضخامة القيمة السوقية لتلك الأراضي المستردة لأملاك الدولة، التي يقدر مجموعها وفقا للقيمة المذكورة في بعض تلك البيانات، أو لتقديرات السوق العقارية في الوقت الراهن بنحو 1.1 تريليون ريال. حينما تقارن هذه القيمة السوقية بقيمة التداول على الأراضي المنقولة ملكياتها طوال عام 1435 فإنك ستندهش جدا إذا علمت أنها تشكل أكثر من 253 في المائة من قيمة الصفقات العقارية على الأراضي فقط! وبنسبتها إلى إجمالي الناتج المحلي فإنها ستتجاوز الـ 37.4 في المائة. وكما تبين البيانات والتصريحات الصادرة عن وزارة العدل من وقت لآخر، فالجهود التي تقوم بها الوزارة مشكورة لا تزال في بداية طريقها، ما يعني أن حصيلة استرداد المزيد من الأراضي الحكومية لا تزال قابلة للزيادة، ومجرد أن يقدر ما تبقى منها بما يعادل ما سبق استرداده؛ فإنك ستقف أمام فاجعة للفساد لم يسبق لها مثيل! تكشف لك هاتان الدلالتان فقط عن السر وراء الأزمة العقارية والإسكانية التي تواجهها البلاد، فهي من جانب تؤكد وتكشف القناع عن الزيف المبين لمقولة (شح الأراضي)، وأنه لم يتعد (تشحيح للأراضي)، التي بدورها ستقود إلى كشف أسباب الغلاء الفادح الذي وصلت إليه أسعار الأراضي، ومن ثم تضخيمها لقيم المساكن، حتى غدت أول المستحيلات المستعصي على أغلب المواطنين وأسرهم تجاوزها، وكيف تحولت تلك المساحات الشاسعة من الأراضي التي وهبها الله لبلادنا، إلى غلة محتكرة في أيادي قلة من النافذين، أتى من بعدهم ثلة من تجار التراب وسماسرتهم ليكملوا على ما تبقى من عافية وتنمية للاقتصاد والمجتمع، حتى وصلنا إلى الطريق المسدود بواقعه الراهن اليوم. هل يكفي أن تسترد تلك الأراضي إلى أملاك الدولة، وتوجيه المناسب منها إلى وزارة الإسكان لتتمكن من تنفيذ مشروعاتها الإسكانية والحيوية؟ وهل ستسهم تلك الخطوات في تنفيس الفقاعة السعرية الهائلة للعقار، ومن ثم المساهمة في حل أزمة الإسكان الخطيرة؟ أخيرا، وهو ما لا يقل أهمية عن إجابات الأسئلة السابقة؛ هل سيتم الاكتفاء بمجرد استرداد تلك الأراضي وإلغاء صكوكها المزورة، أم أنه لا بد من إيقاع العقوبات الواجبة على من ارتكب جرمها وتورط فيها، حتى تقطع دابر التفكير بتكرارها وإعادة فعلها الفاسد؟ ولعل تفاقم أعدادها طوال العقود الماضية، وتكرر وقائعه خير شاهد ودليل على باب المفاسد من عدم ردع تلك الجرائم الخطيرة، قد اتسع حتى وصلت الحال المؤسفة إلى ما وصلت إليه اليوم بتلك المساحات الشاسعة، التي فاقت مساحات مدن رئيسة بأكملها كما تبين أعلاه. سبق أن تمت الإجابة عن السؤالين الأولين، وللتأكيد عليهما؛ ستؤدي تلك الجهود الكبيرة إلى إعادة التوازن الذي ظل يختل أكثر فأكثر طوال الأعوام الماضية، بين كل من العرض (تشحيح الأراضي) والطلب (المتنامي مع زيادة أعداد السكان) في السوق العقارية المحلية، حتى وصلت السوق إلى أسوأ أوضاعها تاريخيا، ووصلت الأسعار إلى أقصى درجات فقاعتها المتضخمة! وللمرء أن يتخيل زيادة العرض بلغة الأرقام المذكورة أعلاه، بماذا يمكن أن ينعكس على قوى العرض والطلب في السوق العقارية؟ إن مجرد إعادة تلك المساحات الشاسعة دون النظر إلى ما ستتم استعادته في المستقبل القريب، وبعد خصم المساحات اللازمة للطرق والبنى التحتية والخدمات العامة، يمكن لتلك الأراضي أن تلبي احتياجات نحو 2.6 مليون أسرة وطلب إسكان! أي أنها ستلبي طلبات الإسكان القائمة اليوم والمتوقعة في منظور الأعوام الخمسة المقبلة. فما بالنا إذا ما زادت كفة العرض على الطلب، وأصبح المعروض أكبر من حجم الطلب؟ سيؤدي ذلك إضافة إلى الجهود الأخرى التي تبذل من مختلف الأجهزة الحكومية (فرض الزكاة، إقرار الرسوم على الأراضي، رفع نسبة الدفعة الأولى للتمويل العقاري)، أؤكد أنه سيؤدي إلى أكبر عملية تصحيحٍ للأسعار المتضخمة اليوم نتيجة التشوهات والاختلالات المتمثلة في عمليات الفساد وسرقة الأراضي وتدويرها في صفقات صورية، استهدفت مجتمعة احتكار الأراضي وتضخيم أسعارها دون وجه حق يذكر. أرجو أن تتضح هذه الصورة لدى عموم الأفراد، وأن تجعلهم على ثقة تامة بأن ثمن هذه الاختلالات الخطيرة يجب ألا يتورطوا في دفع ثمنها، وأن يمنحوا مزيدا من الوقت لن يكون طويلا لأجهزة الدولة أيدها الله، لاستكمال العمل على حل هذه الأزمة المفتعلة كما تبين، وأن يعرضوا تماما عن الأصوات المخادعة التي تحاول توريطهم في شراء أصول عقارية بأغلى الأثمان، توشك على الانهيار في أي لحظة من الزمن! فما يتم العمل عليه اليوم من قبل الأجهزة الحكومية في الوقت الراهن من جهود عملاقة، لأجل تصحيح هذه الاختلالات الخطيرة، لا يشك أحد في أن نتائجه ستؤدي حتما إلى انفجار الفقاعة السعرية للعقار، وأن من ينكر تلك النتائج التي بدأت مؤشراتها الحقيقية في التحقق، إلا صاحب مصلحة ضيقة من تلك التشوهات، أو شخصا لم يعلم بتلك المعلومات، فتراه أسيرا دون مقاومة لوهم الماضي، أن الأسعار دائما في ارتفاع دون النظر إلى الأسباب الفعلية التي أدت إلى ارتفاعها، وأن تلك الأسباب يوما بعد يوم تتساقط وتتهاوى في يد العدالة، التي تمثلها أنظمة الدولة في الوقت الراهن. أخيرا؛ بالنسبة لتطبيق العقوبات بحق من تورط بارتكاب جرائم تزوير تلك الصكوك وإصدار حجج استحكام على تلك المساحات الشاسعة من الأراضي، فحسبما نشر بالأمس في صحيفة "عكاظ"، أن دائرة جرائم الوظيفة العامة في هيئة التحقيق والادعاء العام، تقوم فور إلغاء تلك الصكوك وحجج الاستحكام من قبل وزارة العدل بالتحقيق وإخضاع كل من له علاقة بتلك الوقائع للتحقيق أمام هيئة التحقيق والادعاء العام، وفي حالة توجيه التهم إليهم ستتم إحالتهم إلى المحاكم الشرعية. وحسبما أفادت المصادر المصرحة لـ "عكاظ" أن هيئة التحقيق والادعاء العام ستحقق في رشاوى وتزوير وسوء استغلال السلطة والتربح من الوظيفة العامة لموظفين سابقين وحاليين، في حين يجري استكمال الحصول على نسخ من القرارات القضائية ونسخ من الصكوك وحجج الاستحكام للشروع في التواصل مع الجهات المختصة. هكذا تكتمل معالجة وإصلاح الخلل، وهكذا يتم ردع الفساد ومعاقبته بما يستحق. والله ولي التوفيق.
إنشرها