ثقافة وفنون

عالَم يغتال الثقة ويرتاب بالآخرين

عالَم يغتال الثقة ويرتاب بالآخرين

عالَم يغتال الثقة ويرتاب بالآخرين

بحبور شابين يبدآن حياة محملة بأحلام ومستقبل مبهر، يحضر عمر محبوبته ناديا للمسكن الذي يطمح أن تشاركه فيه. جدران وردية مزركشة تتشابه مع أمانيه المستقبلية. يسألها بحبور: "ما رأيك؟"، تخبره وعيناها تفيضان بشجن أنها وإن كانت تحلم بالتسلل خارج تلك البقاع، بأنها ستشاطره حياته أينما كانت. لا يدرك عمر أن كل تلك الأحلام واهية ليس بإمكانه تحقيقها، فهو يعيش ليناضل من أجل وطنه فلسطين، غير مدرك بما يحيطه الزيف والخداع، وأولئك المقربون الذين يختبئون خلف أقنعة تزيف أفئدتهم. الفيلم الفلسطيني "عمر"، الذي لم يتجاوز الساعة و38 دقيقة. يجسّد تلك الأحلام التي خذلت معتنقيها. بإخراج واقعي أبدع فيه هاني أبو أسعد، في عام 2013، ليرشح لجائزة الأوسكار، ويحصد جائزة أفضل فيلم روائي طويل، في مهرجان قرطاج السينمائي أخيراً، ويلقى احتفاء من الوسط السينمائي العالمي. وذلك يعد امتداداً لنجاح فيلمه الشهير "الجنة الآن" لعام 2005، الذي اشتهر أبو أسعد من خلاله فوصل إلى العالمية. اختار المخرج شبابا يافعين يفتقرون إلى الخبرة، يحملون جاذبية لافتة وحضوراً قوياً. #2# فيلم "عمر" يبتعد عن الغوص في التعقيدات السياسية لفلسطين، ويرفل بعمق عاطفي لقصة أصدقاء ثلاثة، حيث تتعقد علاقتهم بعد تورطهم في عمليات هجومية ضد إسرائيل، وبالأخص حين تلتبس العلاقات مع ناديا ذات التأثير الأنثوي القوي. الشخصية المحورية كما في العنوان هي لعمر، وهو خبّاز بسيط قام بتأدية دوره الممثل الصاعد "آدم بكري"، الذي برع في نقل آمال وإخفاقات عمر، حيث يمر بتحورات تدريجية، من تلك النظرة البريئة الحالمة، حيث يثق بالآخرين، ويعلّق عليهم آماله، ليفيق من كل ذلك، متجرّعاً خيباته. هناك رمزية ممتزجة بواقع الفلسطينيين، حيث يتكرر منذ أول مشهد للفيلم تصوير عمر وهو يتسلق السور محاولا تجاوزه للضفة الأخرى عبر حبل ممدود، يتعرض لرصاصات طائشة تستهدفه فيتفاداها وكأنه معتاد عليها، وذلك في سبيل الالتقاء بحبيبته. تكرار مشهد تسلق السور يجسّد واقع الحياة الفلسطينية، في عالم يوحي بصعوبة الحصول على كل شيء، ووجود حواجز تفصل بين أبناء شعب واحد. فالالتقاء بناديا يتم عبر محاولات للتلصص، واستراق أحاديث من خلف شباك مدرستها، أو عبر نافذة المنزل، ما يتيح لشخص آخر مستتر مشاركته سعادته معها، وتبادل قصاصات ورقية تبث أشجانهم. وقد أجادت الشابة "ليم لوباني" دور ناديا، الفتاة التي ألهبت أفئدة صديقي أخيها، ورمت بشباكها لتورطهما. ليصل عمر إلى مرحلة اكتشاف غدر الآخرين، فكل شيء يستند على أكاذيب. فيلم ينتمي إلى المدرسة الواقعية، وامتزاج ما بين الإثارة الحركية والدراما، حيث تخفق الأحلام الواهية، ويعد تحقيق حلم بسيط كتأسيس أسرة وعيش حياة طبيعية، صعباً. وما يعمّق خيبة الشخصيات المحورية، هو عنفوانهم، حيث أحلامهم تطغى على الحياة الواقعية. ويظهر تأثر بالثقافة الأجنبية، كأحاديثهم التي تتطرق لممثلين كمارلن براندو، وبراد بيت، والسفر إلى باريس. هناك أحلام ترمي بهم بعيداً عن الواقع المعاش، كتدرب الأصدقاء على استخدام الأسلحة وكأنهم في رحلة للكشافة، وتخطيطهم بنزق على مهاجمة جنود إسرائيليين، حيث يؤدي ذلك إلى تورط البعض في الخيانة، وإرغامهم على التعاون مع العدو كعملاء ضد أبناء جلدتهم، بطرق ملتوية. أنتج فيلم "عمر" بتمويل فلسطيني، ودارت أحداثه في مدن فلسطينية متعددة، تفاوت التصوير فيه ما بين السجن وأماكن نائية أشبه بالكهوف والأزقة، ومنازل مهجورة. واستخدم المخرج هاني تصويراً بديعاً أقرب للواقعية، وتقريب الكاميرا للوجوه، والاعتماد على تعابير وملامح الوجوه. ويغلب على الفيلم طابع العتمة الداكنة، يتخللها ضوء خافت كتجسيد للحالة النفسية التي تمر بها الشخصيات، مع ألوان أقرب إلى الترابية والقتامة كالبني والأزرق، كرمز لشظف العيش وحالة البؤس وضياع الحلم. التبدلات النفسية والعاطفية التي يمر بها عمر، تعد محور الفيلم، حيث ينتقل من مرحلة الطموح والآمال إلى العنف ومحاولة الانتقام. وكأن لا سبيل في حياة يشوبها القمع والإذعان إلا بالتعامل بعنف مشابه. فعمر أمام خيارين في حياته، فإما الإذعان لسلطة العدو وإعطائه ما يريد كعميل، أو فقدان حياته وقتل أحلامه. تتجلى جمالية فيلم "عمر"، في كونه يبتعد عن التركيز النمطي للتطرق إلى القضية الفلسطينية. فالحكاية تتطرق إلى المعالجة النفسية لشبان يعيشون حياة اعتيادية، تلامس النضال والأزمة الفلسطينية بأسلوب غير مباشر. أفلام عربية كـ"عمر" بعمقه الإنساني، وإخراجه البديع تشي بمستقبل مبهر للسينما العربية، وإنتاج أفلام تعالج القلق والأزمات بحرفية وإبداع. *كاتبة وروائية سعودية
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون