ثقافة وفنون

كارل بوبر والحدود الفاصلة بين العلم واللاعلم

كارل بوبر والحدود الفاصلة بين العلم واللاعلم

كارل بوبر والحدود الفاصلة بين العلم واللاعلم

كارل بوبر والحدود الفاصلة بين العلم واللاعلم

كارل بوبر (1902/ 1994) ولد في "فيينا" في النمسا من أصل بريطاني، اهتم بعلوم عديدة، منها الطب والرياضيات وعلم النفس والفلسفة.. إلا أن ميوله العلمية كانت متركزة بالضبط على التمييز بين: العلم الحقيقي والعلم الكاذب، قام بالتدريس في بريطانيا وسافر إلى أمريكا، حيث كان أبرز حدث في حياته، إذ تمكن من لقاء "آينشتاين" الذي ناقشه في ثلاثة لقاءات، فلم يستطع امتلاك مشاعره تجاه هذا الرجل معترفا بإعجابه به وتأثيره القوي فيه. ولبوبر كتاب شهير ألفه سنة 1934 مترجم للعربية بعنوان "منطق الكشف العلمي"، الذي وجه فيه نقدا للوضعية المنطقية، خاصة تلك المتمثلة في "حلقة فيينا" الرافضة لكل ما ليس تحته خط تجربة، محاولا إرجاع بريق الميتافيزيقا المهاجمة، كما له كتابان في السياسة وهما: "المجتمع المفتوح وأعداؤه" و"عقم المذهب التاريخي" الذي يبرز توجهه الليبرالي وخصومته الكبيرة لماركس والشيوعية. وتجدر الإشارة إلى أن أطروحات كارل بوبر السياسية تأخرت في الدخول إلى العالم العربي، ويرجع ذلك ربما إلى أن حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات عرفت هيمنة للفكر التاريخاني الذي هاجمه كارل بوبر في وقت مبكر. سنسعى في هذا المقال إلى الوقوف عند أبرز ملامح فلسفة كارل بوبر وهي تفرقته الشهيرة بين العلم الحقيقي والعلم الكاذب. معيار علمية الأفكار بعد النجاحات الكبرى التي حققها العلم بدءا من الزمن الحديث خاصة مع نظرية التجاذب الكوني لنيوتن (القرن 17م) باعتبارها أول معمار ذهني ورياضي صارم يجمع شمل قوانين السماء بقوانين الأرض، بحيث سيصبح سقوط التفاحة لا يختلف عن دوران القمر، المسألة فقط مرتبطة بمتغير الكتلة والمسافة. فالقمر الاصطناعي مثلا يمكن أن يسقط كما يمكن أن يدور، وهو الأمر الذي كان يبدو مستحيلا في الزمن القديم، حيث كان عالم السماء مختلفا عن عالم الأرض جذريا.هذا النجاح سيجعل العلم محط تقدير، بل ستصبح لفظة علم سحرية ومغرية، حيث الكل سيتهافت ويتودد نحوه، ويقدم خطابه على أساس أنه منتج علمي، إلى درجة الخلط والالتباس، وهو ما دفع عديدا من العلماء والإبستمولوجيين في القرن العشرين إلى طرح السؤال الآتي: ما هي مقاييس ومعايير علمية الأفكار؟ كيف يمكن رسم الحدود الفاصلة بين عالم العلم وعالم اللاعلم، كيف نضمن أن أفكارنا تنتمي إلى حظيرة العلم وتستحق هذا اللقب؟ هل من مصفاة من خلالها نفرز ما هو علمي عما هو ليس علميا؟ يمكن إجمالا تحديد المقياس المقترح نحو العلمية في كون الفكرة يجب أن تتميز بالدقة والموضوعية والوضوح، كي تكون قابلة للنقاش والأخذ والرد. لكن سنكتفي مع القارئ الكريم بأشهر معيار قدم في قضيتنا المطروحة وهو معيار"القابلية للتكذيب" للفيلسوف النمساوي "كارل بوبر" الذي يؤكد أن الفكرة هي علمية، إذا تمت صياغتها بطريقة تضم مؤشرات واضحة (مكانا، أرقاما، معطيات ملموسة) تسمح بدحضها وتفنيدها إيجابا أو سلبا. بكلمة واحدة العلم يكذب واللاعلم لا يكذب. فكيف ذلك؟ لكي نستوعب هذا الشرط أي: القابلية للتكذيب باعتباره الحد الفاصل بين العلمي واللاعلمي سنضرب كبداية الأمثلة التالية: المثال 1 إذا ما سمعت عرافا أو منجما: يعلمني أن مستقبلي سيكون زاهرا، وأن أحوالي المادية ستتحسن، وأني سأتزوج وألد أبناء، وفي مقابل ذلك إذا ما سمعت عالم الأرصاد الجوية يقول: غدا بعد الزوال ستهطل الأمطار في الشمال بمقدار 30 ملم، وستستمر إلى حدود صباح اليوم التالي. فإننا سنقول بحسب كارل بوبر: إن كلام العراف ليس علميا؛ لأنه لا يمكن أن يكذب، فكلامه فضفاض يعني كل شيء ولا شيء، بينما كلام عالم الأرصاد الجوية دقيق، فيه مؤشرات تمكن من التكذيب ومعاودة النظر والمراجعة... وبالعودة إلى العراف فهو لا يمكنه أن يقول لي بوضوح ودقة متى وكيف سيكون هذا المستقبل؟ ومتى سأحصل على الأموال؟ ومن طرف من؟ ومن هي زوجتي المستقبلية؟ فغياب الدقة يجعل كلام العراف كلاما خارجا من حظيرة العلم. المثال 2 #2# لنفترض نقاشا يدور بين جماعة من التلاميذ حول وجود جن في الفصل الدراسي. وهنا لا أحد يمكنه بحسب كارل بوبر أن يكذب هذا الكلام، ومن ثمة يعد غير علمي، فهو مثلا يدخل في إطار الإيمان. ولي أن أعتقد ذلك وبكل حرية، لكن لا أقدر أن أسمي كلامي علما بالمقاييس المتفق عليها في عالم العلماء. وهل يعني أن كلامي فارغ؟ الجواب لا. لكن كل ما هنالك أنه كلام لا يدخل في إطار اهتمام العلم؛ لأن مؤشراته لا تسمح بتكذيبه. المثال 3 إذا ما قال أحد الناس بملء الفم: إن تسونامي غضب إلهي. فمن سيكذبه؟ لا أحد يقدر على ذلك. إذن كلامه معتقد غير علمي. لكن إذا جاء عالم بصور الأقمار الاصطناعية لما قبل التسونامي وما بعده لإثبات أنه تكتونية (زلزال) وقع في عرض البحر، فهو بذلك يعطي مؤشرات تسمح بالمراقبة والدحض إيجابا أو سلبا. وإذا ما جاء عالم آخر يثبت خطأ معطياته، فإن العالم الأول سيعترف بخطئه وبكل صدر رحب ويتجه صوب معاودة النظر. إذن نخلص إلى أن العلم يناقش، ويؤخذ ويرد، وأن النظريات العلمية نسبية قد تكون مجدية للتفسير في حقبة معينة ما دام أن لها ما يؤيدها. لكن دائما هي مهددة بالسقوط في كل لحظة ما دام أن هناك ما يكذبها. إن معيار القابلية للتكذيب ضيق الممر نحو العلمية، فلا تمر إلا القضايا الدقيقة المحددة والقابلة للاختبار، فعندما أقول لك يوجد غراب أبيض، فهذه قضية لا علمية، لأنني غير قادر على تكذيبها في الواقع، فقد تقول لي إنه يوجد هذا الغراب في القطب الشمالي، فأتجه بحثا عنه، فلم أجده، فترد علي: بمجرد أن وصلت أنت هناك هاجر الغراب إلى منطقة أخرى.. وهكذا لن أقدر على تكذيبك. #3# إن العالم الحق بحسب كارل بوبر لا يحتضن نظريته أبدا، بل يطلب بكل صدر رحب من يجد مكذبات تحرج ادعاءه، وهو يكون مستعدا للتنازل عن نظريته في كل لحظة، فالعالم يبحث ويعطي كل المؤشرات اللازمة وبوضوح كامل تسمح بدحض موقفه، وبهذا تتطور النظريات، فالتحقق إشباع، والإشباع يعني ارتكانا إلى النظرية المقترحة، وهذا فيه خمول وإيقاف لعجلة البحث، بينما التكذيب يجعلني أشك وأجتهد باحثا عن الواحد المكذب، وهو ذكاء يجعل العلم دائما في يقظة. بوبر يعارض ماركس وفرويد إن أهمية ترسيم الحدود بين العلم وأشباه العلم ازدادت أهمية في القرن 20؛ نظرا لظهور نظريتين كان لهما الذيوع والتأثير الكبير في عقول الناس، وهما: التحليل النفسي بزعامة "فرويد"، والماركسية بزعامة "ماركس". فمع نفوذ وتقدم العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وأحياء في القرن 19 غمر الحماس كلا من فرويد وماركس، وتاق كل منهما إلى توسيع رقعة العلم بحيث تغطي مجالات جديدة. فنظر فرويد إلى نفسه بوصفه مكتشفا لعلم نفس جديد وهو يسبر أغوار النفس البشرية ولا شعورها، مدعيا أنه أحدث ثورة شبيهة بالثورة الكوبيرنيكية الفلكية والثورة البيولوجية الداروينية... كما نظر ماركس إلى نفسه بوصفه مكتشف علم اجتماع جديد، وهو يشرح البنية الاجتماعية الرأسمالية، مدعيا أنه وجد القانون المحرك لعجلة التاريخ.وتطبيقا لمعيار القابلية للتكذيب سيعارض كارل بوبر كلا من فرويد وماركس، فهما لم يقدما علما، بل قدما علما زائفا. فالفرويدية مثلا هي نظرية تفسر كل شيء، فإذا ما غامر رجل بحياته لإنقاذ طفل، فذلك راجع للتسامي وإعلاء للغرائز، أما إذا قام رجل آخر بإغراق طفل، فإن فرويد يفسر ذلك بتنفيس عن مكبوتات مخزنة في اللاوعي. إذن فرويد يحتضن نظريته ويعتقد فيها بإطلاق، إلى درجة تصبح قادرة على أن تجيب عن أي قضية، إذن هي لا تكذب، وما دام هي كذلك فهي من أشباه العلم وليست علما. أما الماركسية فستتعرض هي أيضا من كارل بوبر إلى نقد لاذع في ادعائها العلمية، فالنظرية الماركسية تكيف نفسها مع أي حدث، فالاشتراكية تطلب من الناس أن يتبنوا الفكرة التالية "أيدوا المحتوم"، فالقول إن الاشتراكية هي لا محالة قائمة بعد الرأسمالية انطلاقا من دراسة التاريخ والاقتصاد والتأكيد على أنه تنبؤ علمي يعتبره بوبر "فخ الفأر"، فمحاربة الشيوعيين من أجل شيء يجب أن يتحقق هو مصادرة على المطلوب. ففكرة التنبؤ بالمستقبل لا يمكن تكذيبها، ومن ثم فالماركسية هي أيضا مثل الفرويدية مجرد علم زائف. يبقى أن الدرس من معيار القابلية للتكذيب هو تعلم رسم الحدود بوضوح بين الأشياء، إيقافا لكل خلط فكري وضربا لكل عبث بالعقول. *أستاذ الفلسفة -المغرب
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون