ثقافة وفنون

شيخوخة الفكر وطفولة اللغة

شيخوخة الفكر وطفولة اللغة

شيخوخة الفكر وطفولة اللغة

معنيان ممكنان على الأقل بالنسبة لتعبير فلسفة اللغة. يمكن أن يتعلق الأول بفلسفة حول اللغة، أي بدراسة خارجية، تعتبر اللغة موضوعا معروفا مسبقا، وتبحث عن علاقاته مع موضوعات أخرى مختلفة عنه، على الأقل في بداية البحث. سنتساءل على سبيل المثال حول العلاقات بين الفكر واللغة (هل لأحدهما الأسبقية على الآخر؟ كيف يتفاعلان؟) هكذا حاول تيار مثالي، في الفلسفة الفرنسية في بداية القرن العشرين أن يبين أن تبلور المعنى في كلمات مسكوكة هو أحد أسباب الوهم الجوهري للاعتقاد بوجود أشياء معطاة وحالات ثابتة. سؤال آخر كثيرا ما نوقش في الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، يتعلق بدور اللغة في تاريخ الإنسانية: حاول اللسانيون المقارنون إثبات تحول اللغة عبر مرور الزمن، وحاول فلاسفة مثل هيجل، أو لغويون هيجليون مثل شليشر Scheleicher تفسير هذا الفعل المزعوم بقولهم إن الإنسان التاريخي ينزع إلى تبني موقف المستعمل إزاء اللغة: تمنح اللغة إمكانية مزدوجة للتأثير في الآخرين، ولتخليد ذكرى هذا الأثر، وهي الإمكانية التي يتأسس عليها التاريخ نفسه. فقط في المرحلة الأولى من تاريخ الإنسانية استطاع الإنسان الاهتمام باللغة في ذاتها، وأن ينحو بها نحو كمالها الباطني. غير أنه يوجد موقف آخر ممكن بالنسبة للفيلسوف المهتم باللغة، وهو إخضاع هذه الأخيرة لدراسة "داخلية" واعتبارها هي نفسها موضوع بحث. وقد انساقت الفلسفة منذ نشأتها إلى هذا النمط من البحث، إلى درجة تتقدم كتفكير. وإذا كانت في الواقع المقاربة الفلسفية لمشكلة ما هي أولا توضيح المفاهيم المضمنة في صياغة المشكل، مفاهيم تمثل عادة من خلال كلمات اللغة اليومية، فإن الفيلسوف يسعى إلى تحليل، يمكن تسميته تحليلا لغويا، لمعنى الكلمات. إن بداية حوار لاسيش L'achès بداية دالة. حيث يتناقش المتحاوران لمعرفة هل المبارزة تؤدي إلى الشجاعة أم لا. يتدخل سقراط، فيعطي للمشكلة في الوقت نفسه بعدا فلسفيا كما يحولها إلى قضية لغوية "ما معنى كلمة شجاعة؟". والبحث عن دلالة عامة حيث يمكن أن نستنتج منها كل الاستعمالات الخاصة للكلمة. غير أن البحث اللغوي في حوارات أفلاطون ينتهي دائما إلى الخيبة والإحراج، ولا يصلح سوى لتهيئة الأرضية لفهم مباشر وحدسي للمفهوم (الفهم الذي لا ينتج من جهة أخرى إلا في بعض الحوارات "المكتملة"). لقد تم تطبيق التحليل اللغوي، الذي يحضر في كل فلسفة نظرية، بشكل نسقي –واعتبروا التحليل اللغوي في الغالب الدراسة الفلسفية المشروعة الوحيدة- من قبل أغلب الفلاسفة الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين الذين ينعتون أنفسهم بـ"فلاسفة اللغة" ويسمون دراساتهم "الفلسفة التحليلية"، حيث طوروا بعض أفكار المناطقة الوضعيين الجدد، مثل كارناب Carnap واستلهموا أعمال مور More وراسل Russel وفتجنشتاين Wittgenstein، مؤكدين أن أكبر جزء من الفلسفة المكتوبة، ليس خطأ، بل عديم المعنى، ولا يستمد عمقه الظاهري إلا من الاستعمال السيئ للغة العامة. #2# هكذا ستختفي "المشكلات الفلسفية" المزعومة بمجرد أن يتم إخضاع ألفاظها للتحليل، كذلك ستبدو نقاشات فلسفة الأخلاق بدون موضوع، بمجرد توضيح المعنى الذي تأخذه، في اللغة العامة، كلمات مثل "حسن" "سيئ"، "وجوب"، "تقييم"، إلخ. انطلاقا من هذا الموقف المشترك، تظهر اختلافات حول قيمة اللغة داخل هذه المدرسة. بالنسبة للبعض، فإن خطأ الفلاسفة يعود إلى ضعف خاص في اللغة انتقل إلى البحث الفلسفي بدون نقد. كما يعود، إلى كون اللغة العامة، رديئة التأليف، الأمر الذي لم يأبه إليه الفلاسفة. مثل ملك لويس كارول Lewis Carrol الذي يعبر "لا أحد Nobody" في النحو الإنجليزي، كلمة من نفس الطبيعة ونفس الوظيفة لكلمة "أحد Somebody". سيظل الفلاسفة يستنبطون من التشابه النحوي للفظتين تشابههما الدلالي. واعتقدوا كذلك أن الجودة خاصية للموضوعات أو للأفعال، بدليل أننا نقول "هذا كتاب جيد" كما نقول "هذا كتاب أحمر". كما أنهم لم يلاحظوا حسب مثال راسل Russell بأن ملفوظ "ملك فرنسا أصلع" يعبر عن حكم وجودي ("يوجد شخص هو ملك فرنسا وهو أصلع")، وذلك لانخداعهم بالشكل النحوي لهذا الملفوظ، الذي يشبه الجمل المؤلفة من موضوع ومحمول مثل "هذا أزرق". لقد تمثل إذن هؤلاء الكتاب التحليل اللغوي باعتباره نقدا أولا، واتهموا اللغة بأنها أفسدت الفلسفة، وخلصوا في بعض الحالات إلى ضرورة إعادة بناء اللغة منطقيا. إن النزعة المهيمنة، في المدرسة التحليلية هي مع ذلك عكسية. وهي تلك الممثلة من قبل مدرسة أكسفورد، حيث يسميها المناصرون فلسفة اللغة العامة. إذ لم يهتموا باللغة ولكن بالطريقة التي يستعملها بها الفلاسفة. تولد المشكلات الفلسفية من استعمال الكلمات العامة في غير محلها (يوجد هنا نوع من الكانطية اللغوية: بالنسبة لكانط تعود التناقضات الفلسفية إلى استعمال مقولات الفكر خارج الشروط، التي تعطيها وحدها معناها الموضوعي). تتحدد الأطروحة المركزية لفلاسفة أكسفورد بشعار meaning use (المعنى هو الاستعمال): وصف معنى كلمة، معناه إعطاء وجه استعمالها وتعيين عقود اللغة التي تؤديها (هكذا تتجلى القيمة الأساسية لصفة "حسن" في إبرازها لعقد لغوي خاص هو التوجيه. القول "هذا حسن" = القول أوجهك إلى هذا). إلا أن خطأ الفلسفة التقليدية يكمن في إعطائها للكلمات وظائف غير تلك التي تعطيها لها اللغة العامة (مثل استعمال "هذا حسن" كوصف لموضوع). لذلك لا ينبغي القول إن اللغة غير منطقية، فهي ذات منطق خاص، يقترب من منطق الفعل أكثر من المنطق الرياضي، الذي غاب عن الفلاسفة تمييزه. هكذا نجد، من جهة في أعمال مدرسة أكسفورد تصنيفا دقيقا لمختلف الاستعمالات الممكنة للغة، ومن جهة نجد لهذه المدرسة تحديد أنماط الاستعمال الخاصة بالعبارات الخاصة للغة أو لأخرى. يميل أغلب فلاسفة المدرسة التحليلية إلى تمييز مقاربتهم عن الدراسة اللسانية الخالصة. وبالعكس لا يبدو لدى أغلب اللسانيين، حتى في وقت قريب، اهتمام بالأبحاث التي كان عيبها العضال أن تظهر أنها فلسفية. ويعود هذا الانفصال إلى سببين أساسيين أخذا يفقدان أهميتهما راهنا نتيجة تطور اللسانيات: أ ـ يشعر الفلاسفة التحليليون الذين يرتبطون مباشرة بالوضعية الجديدة بأن بحثهم ينتهي إلى نقد للغة، ولا يتوافق مع الموقف الوضعي للسانيين. لكن هذا الإحساس يتأسس على مطابقتهم للواقع النحوي لجملة مع التركيب الظاهر للكلمات، ويتحدثون عن مخالفة المنطق بمجرد ما يأخذ التركيب نفسه تنظيمات دلالية مختلفة (هكذا، سيكون لأحد Somebody ولـ لا أحد Nobody الطبيعة النحوية نفسها؛ لأنهما يكونان الواحد كالآخر، الفاعل أو المفعول: هكذا تحث قواعد اللغة على السفسطائيين الذين يرتكزون على أخذ الاثنين معا على تعيين أشياء موجودة). والحال أن تطور مفهوم التحويل اللغوي يضع تصورا أكثر تجريدا من الواقع النحوي. بالنسبة لأغلب التوليديين مثلا، البنيات العميقة للجمل التي تحتوي على لا أحد nobody واحد somebody مختلفة جدا، رغم تشابه تنظيمها الظاهر. ومن ثم فإن النظر إلى اللغة من حيث عمقها يبين أن منطقها أقل اختلالا مما يبدو. بل أكثر من هذا فإن دراسة الاختلالات المنطقية الظاهرة، يمكن من هذا المنظور أن تدمج في البحث اللساني: إذ تقدم إشارات أو على الأقل فرضيات تتعلق بالبنى العميقة. ب ـ يعتبر الفلاسفة التحليليون المتخصصون في دراسة عقود اللغة هذا البحث غريبا عن اللسانيات في الغالب، بدليل أن هذه الأخيرة تدرس اللغة (السنن)، وليس استعمالها في الكلام. والواقع أن بعض اللسانيين اعتمدوا على أعمال بنفنيست Benveniste، محاولين إعادة إدماج العلاقات البينية الذاتية التي تتحقق عند حاجة الكلام وفي اللغة: فلا يمكن للغة في نظرهم أن تكون موصوفة بدون أخذ بعض آثار استعمالها بعين الاعتبار على الأقل. هكذا سيكون على اللساني أن يتعلم الكثير من "فلسفة اللغة" الحالية. *أوزوالد ديكرو
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون