Author

حينما ينخفض النفط

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
تلك هي سنة الكون؛ لا شيء يدوم على حاله، العبرة كل العبرة، أن تبحث فيما فعلت ونتج عنك حينما كان النفط في ذروته، وماذا ستفعل حينما يعود إلى مستوياته الراهنة، ماذا ستفعل إن هو مضى منحدرا أكثر مما وصل إليه الآن؟! تزداد الخيارات في يديك كلما كانت أوضاعك المالية أفضل، وهي كذلك بالنسبة لنا في الوقت الراهن، بفضل الاحتياطيات الضخمة التي احتشدت لدى اقتصادنا، ويؤمل أن يحسن توظيفها في الاتجاه المعزز لمتانة الاقتصاد الوطني تجاه امتصاص أي صدمات متوقعة مستقبلا، وفي الوقت ذاته للمحافظة على معدلات نمو حقيقية تكفل استدامة المشاريع الراهنة، وتؤدي إلى إيجاد الوظائف الملائمة للباحثين والباحثات عنها بين صفوف العاطلين ومخرجات التعليم. وفقا للقائم حتى الآن من بيانات؛ تقدر الميزانية الفعلية للعام المالي الجاري في جانب إجمالي الإيرادات بـ 1.1 تريليون ريال مقابل إجمالي مصروفات 1.13 تريليون ريال، وعجز مالي بنحو 42.7 مليار ريال. أما بالنسبة للعامين الماليين القادمين، فيقدر إجمالي إيرادات 2015 عند متوسط سعر نفط 62 دولارا أمريكيا للبرميل، ومستوى متوسط إنتاج يومي عند 9.6 مليون برميل يوميا بنحو 743 مليار ريال، مقابل إجمالي مصروفات متوقعة 898 مليار ريال، ليظهر عجز مالي يبلغ نحو 155 مليار ريال. وفي حال تحسن متوسط سعر النفط خلال 2016 إلى نحو 75 دولارا أمريكيا للبرميل، يقدر أن يصل إجمالي الإيرادات إلى 878 مليار ريال، مقابل إجمالي مصروفات 910 مليارات ريال، ليبلغ العجز المالي المقدر نحو 32.3 مليار ريال. طبعا هذه ليست الصورة الفعلية للميزانية، ولكنها التوقعات التي تم تقديرها وفقا للبيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي و"أوبك"، وهي دون شك تختلف عما كانت عليه الأوضاع المالية المتيسرة طوال سنوات العقد الماضي، ومن ثم فهي ستحمل معها نمطا آخر مختلفا من التحديات والتطورات الاقتصادية محليا وخارجيا بالنسبة للاقتصاد الوطني والميزانية الحكومية. إن السياسات الاقتصادية المعمول بها ستكون أمام اختبارات حقيقية، وذلك في مواجهة التطورات المحتمل تزامنها مع المرحلة الزمنية لتراجع سعر النفط عالميا، سواء على التنوع بالقاعدة الإنتاجية المحلية، أو على مستوى إدارة الفوائض المالية التي تناهز سقف 4.0 تريليونات ريال، أو على مستوى قدرة القطاع الخاص تجاه تحمله مسؤولية المحافظة على معدلات النمو الحقيقي المأمولة، وقدرته أيضا على مستوى إيجاد مئات الآلاف من الوظائف الملائمة. يذكر المفكر الاقتصادي محمد العريان في مقاله الأخير بعنوان "عام من التباعد": (في العام المقبل، سوف يصبح "التباعد" موضوعا اقتصاديا عالميا رئيسيا يجري تطبيقه على الاتجاهات الاقتصادية، والسياسات، والأداء. ومع تقدم العام، سوف يصبح التوفيق بين الاختلافات الناتجة من هذا التباعد أمرا متزايد الصعوبة، وهو ما من شأنه أن يجعل صناع السياسات أمام اختيار واضح: فإما أن يتغلبوا على العقبات التي أعاقت حتى الآن العمل الفعّال، أو يجازفوا بالسماح بزعزعة استقرار اقتصادات بلدانهم). الفقرة الأخيرة من النص المذكور أعلاه، هي مربط الفرس بالنسبة لنا ولبقية راسمي السياسات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم، إنه الاختبار الذي يجب أخذه بعين الاعتبار من قبل أجهزتنا الحكومية المعنية، الذي يقتضي بالضرورة بمكان أن يتم توظيف الخيارات الواسعة أمامنا اليوم مقارنة بمحدوديتها للعديد من البلدان من حولنا، أؤكد أن يتم توظيفها في اتجاه استمرار العمل على تحقيق ما تأخر تحقيقه في الأعوام السابقة، فما زالت الفرصة سانحة أمامنا عبر ضخ أكبر قدر ممكن من الاحتياطيات المتوافرة في مجالات تأسيس المشاريع المجدية للاقتصاد الوطني، والركود الذي قد يطغى على العديد من البلدان، من المفترض توظيفه في مصلحتنا الداخلية، بمعنى أن تستغل فرصة ضعف المنافسين خارجيا، ليتم العمل على تحويل تلك الاحتياطيات إلى مشاريع إنتاجية بأقل التكاليف، والتي ستسهم دون شك في إيجاد فرص العمل الملائمة. كما يمكن تمويل المصروفات الجارية حسب الحاجة من خلال زيادة عمق السوق الثانوية للصكوك والسندات، والتي ستبرز فوائدها الجلية للعديد من الأطراف الباحثة عن قنوات استثمارية أكثر أمانا وذات ربحية مقبولة، فهي من جانب ستلبي احتياجات الميزانية العامة للدولة بالأموال اللازمة، وفي الوقت ذاته ستوفر قنوات لامتصاص قدر كبير من السيولة المحلية الهائلة، سواء المودعة في الوقت الراهن لدى المصارف المحلية، أو تلك المستثمرة في كل من السوقين العقارية والمالية، اللتين تمران بظروف غير مستقرة في الوقت الراهن نتيجة تقلبات سعر النفط العالمي. بل إنها ستكون بمثابة أحد أفضل الحلول أمام السيولة المتوقع تخارجها من السوق العقارية المحلية، التي دخلت مرحلة ركود يتوقع أن تنتقل إلى مرحلة من تراجع أسعارها نتيجة العديد من العوامل والإجراءات التي اتخذتها الدولة لحل أزمة الإسكان. أمر آخر يتعلق بانخفاض النفط، كما نرى جميعا أن الأسواق تتفاعل سلبا مع التراجعات الحادة في سعر النفط، ويتوقع أن يستمر تأثيرها بصورة أكبر مما تقدم، لعل السمة المشتركة بينها هو التراجع المتئد في مستويات التضخم، وقد يكون بصورة أكثر تسارعا للمستويات السعرية الأعلى تضخما مقارنة بغيرها كما هو حاصل في السوق العقارية، وهو ما لن يخرج عن دائرة تأثيراته أي من الأصول الاستثمارية على مختلف أنواعها، بما فيها بالدرجة الأولى أسهم الشركات المساهمة والأصول العقارية المختلفة. غير أن العجيب في الأمر هنا؛ أن يأتي من يقول إن العقارات وهي الأكثر تضخما من حيث الأسعار، وحدها فقط التي لن تتأثر بتلك التراجعات في أسعار النفط، ورغم أنه كان العامل الأول أو قل المبرر الأول طوال فترة ارتفاعه لتبرير تلك الارتفاعات الشاهقة لأسعار الأراضي والمنتجات العقارية، إلا أن نفس تلك المصادر نراها اليوم وقد اختلفت نبرتها وفكرتها، وهذا فيه تغرير خطير بمجتمع الأفراد الباحثين عن مساكن وأراض لأجل استخدامها في الهدف الرئيس الذي لأجله وجدت، لا لأجل المضاربة عليها وتدوير الأموال! هذه المكابرة ومحاولة بث الشائعات والوهم وبيعه على الأفراد، أعتقد أن زمنها قد ولى في عصر انتشار المعلومات وتوافرها بصورة غير مسبوقة، ما ينبغي على الأفراد أخذ أعلى درجات الحيطة والحذر من التورط في شراء أصول عقارية توضح مجريات الأمور بصورتها الراهنة، أنها معرضة للتراجع والانخفاض، ويأخذ التحذير درجة أعلى حينما قد يضطر هذا الفرد للشراء عن طريق الاقتراض من المصارف التجارية، وهذا فيه عبء وتكلفة أكبر على كاهل ميزانيته ودخله طوال العشرين سنة القادمة. آمل أن يتجاوز اقتصادنا الوطني تلك التحديات وهو في أفضل حال، وأبعد ما يكون عما نخشاه عليه من مخاطر تلك المتغيرات القادمة على وجه الاقتصاد العالمي بأسره، والتي لا شك أنها ستكون ذات وطأة شديدة للغاية على كاهله وهو الذي لم يخرج بعد من آثار الأزمة المالية العالمية 2008، وأن يصل اقتصادنا الوطني إلى أهدافه النهائية وهو في خير حال، وأن يكون مجتمعنا الكريم أول من يجني ثمارها. والله ولي التوفيق.
إنشرها