Author

مؤسسة النقد وشائعات التمويل

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
ترددت وتتردد الشائعات خلال الأيام القليلة الماضية حول توجه مؤسسة النقد العربي السعودي لرفع الحد الأعلى لمبلغ التمويل العقاري إلى نسبة أكبر من 70 في المائة من قيمة المسكن محل عقد التمويل العقاري، الذي تقل قيمته عن 1.5 مليون ريال، ولم تحدد تلك الشائعات النسبة المحتملة التي سترفعها مؤسسة النقد إليها، إلا أنها كما يبدو من حماسة الجهات والأسماء التي نشرتها وتنشرها تطمح إلى أن ترتفع إلى 90 في المائة من قيمة المسكن محل عقد التمويل العقاري، ويعني ذلك في المقابل انخفاض المبلغ المفترض أن يتحمل تكلفته مقدّم طلب التمويل إلى 10 في المائة فقط من إجمالي تكلفة عقد التمويل! يُعاب على كثير من مؤسساتنا وأجهزتنا الحكومية تأخر تفاعلها مع مثل هذه الشائعات، التي يعتبر تركها دون أيّ تعليق خرقا لها ولمسؤولياتها بالدرجة الأولى، دع عنك أن تتسرب تلك الشائعات إلى صفحات الإعلام المختلفة، فيتحول الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير بكل ما تحمله تلك الشائعات من مخاطر قصوى، أقل ما يمكن أن تخلفه وراءها تضاءل الثقة بالقطاع المالي، وفي مصداقية تلك المؤسسة أو الجهة الحكومية قبل أي طرف آخر. كما سيعاب بصورة أكبر على تلك الجهة، إذا ما تبين أن تلك الشائعة كانت إحدى وسائل جس النبض من قبلها، لمعرفة ردود أفعال الأفراد والجهات ذات العلاقة في المجتمع، فهذا الأمر إن صدقت وتأكدت شكوكه، وانكشفت حقائقه فيما بعد، فلا أقل من ضرورة فتح تحقيق رسمي معها من قبل الجهات الرقابية والمشرفة عليها! وتزداد حساسية مثل تلك الشائعات مهما كان وزنها، إذا ما تعلقت بأعمال الإشراف على أحد أهم القطاعات المالية والاقتصادية في أي بلد كان، ممثلا في القطاع المالي! إن أول من يدرك هذه الحقائق العالية الأهمية، مؤسسة النقد العربي السعودي نفسها! كيف لا؟ وهي التي اعتبرت وفقا لما أوردته على موقعها الإلكتروني، أن من أبرز الإجراءات التي اتخذتها للمحافظة على سلامة القطاع التمويلي واستقراره، أنها حددت سقفا أعلى لمجموع الائتمان الممنوح من قبل الممولين، إضافة إلى وضع حد أعلى لمبلغ التمويل العقاري بما لا يتجاوز نسبة 70 في المائة من قيمة المسكن محل عقد التمويل العقاري، فيما يترتب على المستفيد دفع نسبة 30 في المائة المتبقية، واشتراطها للمتطلبات المتعلقة بالضمانات، ومتطلبات دراسة الجدارة الائتمانية لطالب التمويل والحصول على عدم ممانعة المؤسسة قبل إجراء عمليات بيع لعقود التمويل. جاءت تلك الإجراءات الاحترازية نتيجة سنوات عديدة لدراسة تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، كان من أهمها أزمة الرهن العقاري التي تفجّرت في الولايات المتحدة نهاية 2008، تمكنت من خلال تلك الدراسات من تحديد أهم المخاطر والصعوبات التي واجهتها تلك الدول، والتعرّف على سبل تجنب التورط في مثل هذه المخاطر والاستعداد المبكر لها، وهي جوانب تمت مراعاتها خلال إعداد مشاريع اللوائح التنفيذية للأنظمة المنظمة لهذا القطاع، كان من أهم المعايير الواردة في اللوائح التنفيذية، تحديد سقف لإعادة تمويل أنشطة الشركات، واشتراط الحصول على ضمانات ملائمة قبل منح التمويل، واشتراط عدم تجاوز مبلغ التمويل العقاري نسبة 70 في المائة من قيمة الأصل العقاري، واشتراط التأكد من قدرة طالب التمويل على سداد التمويل قبل منحه. إن تحقق تلك الشائعة القائلة بعزم مؤسسة النقد رفع الحد الأعلى لمبلغ التمويل العقاري إلى نسبة أكبر من 70 في المائة من قيمة المسكن محل عقد التمويل العقاري، كأن ترفعها إلى 80 في المائة أو 90 في المائة، بمعنى انخفاض تكلفة مقدّم طلب التمويل إلى 10 في المائة فقط من إجمالي تكلفة عقد التمويل، التي بدأت بالانتشار والترويج لها من قبل جهات معينة مستفيدة حصرا، يعني أن كل ما تقدّم من جهود استغرقت عدة أعوام، بهدف حماية القطاع المالي بالدرجة الأولى، والاقتصاد الوطني بصورة أوسع نطاق، أؤكد أن تلك الشائعة حتى تاريخه تعني أنّ كل تلك الجهود والدراسات المستفيضة والمكلفة ماديا، قد ذهبت أدراج الرياح هباء منثوراً! كما يعني أيضا أن مؤسسة النقد العربي السعودي بموافقتها على التنازل عن تلك الضوابط والإجراءات الاحترازية، قد تخلت عن حماية القطاع المالي السعودي، وأنها توافق بصورة رسمية على تعريض القطاع لمخاطر تراجع وانكماش أسعار العقار. أما إذا كانت تلك الأخبار (الشائعات) المنتشرة بين أغلب الأفراد لا تتعدى كونها مجرد أكاذيب وشائعات معلومة الأهداف، فإنه من الواجب على مجلس إدارة مؤسسة النقد العربي السعودي، أن تبادر بنفي هذه الشائعة على وجه السرعة، وتقطع على الفور دابر من يروِّج لتلك الأخبار الكاذبة، وأن تصرّح عبر محافظها أو مَن يفوضه إما بتأكيد تلك الأخبار وإما نفيها نفياً مطلقا. تدرك مؤسسة النقد قبل غيرها من الجهات الرسمية، أن القطاع العقاري يعجّ بكثير من الفوضى، وضعف التنظيم والرقابة، وأنه تحول إلى سوق سيطرت وتسيطر عليها المضاربة المحمومة بالأموال والتدوير، التي أفضت بدورها إلى تضخم أسعار الأراضي، ومن ثم المنتجات العقارية، وأخيرا انتقلت إلى تكلفة الإيجارات السنوية، وجميعها تحولت إلى أحد أكبر وأوسع مصادر التضخم في الاقتصاد الوطني، لتطلع على حالها المشوه في تشكيل أكبر معوقين يواجههما الاقتصاد والمجتمع على حدٍّ سواء: المعوق الأول: أن السوق العقارية تحولت إلى أكبر جاذب للأموال والثروات المتوافرة في الاقتصاد، على حساب كثير من النشاطات الاقتصادية والتنموية التي هي في أمس الحاجة إليها، لأجل تنويع قاعدة الإنتاج المحلي، وإيجاد فرص العمل الكريمة أمام المواطنين والمواطنات، ومن عجبٍ أنّها كما كشفت عنه بيانات وزارة العدل؛ تركزت بأكثر من 94 في المائة من إجمالي تلك الأموال (440 مليار ريال) في المضاربة على تراب الأراضي، ووصلت المساحات المتداولة لتلك الأراضي إلى أكثر من 99.4 في المائة من إجمالي المساحات المتداولة (3.6 مليار متر مربع). المعوق الثاني: أن هذه العمليات الهائلة من التدوير للأموال دون قيد أو رقابة أو سيطرة أو إشراف، أدت ليس فقط إلى افتعال واحدة من أكبر الأزمات التنموية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا، ممثلةً في أزمة الإسكان، لدرجة أوصلت نسبة السكان الذين لا يمتلكون مساكنهم لنحو ثلاثة أرباع السكان! رغم الوضع الاقتصادي المريح جداً لاقتصادنا الوطني. ولم يقف أثرها السلبي عند هذا الحد؛ بل تجاوزه عبر تفاقم فقاعة العقار الهائلة اليوم، إلى أن أصبحت السوق العقارية أكبر مصدر للتضخم في الاقتصاد الوطني. وإن الخشية ماثلة في احتمال أن يتسبّب ذلك في توريط القطاع المالي والاقتصاد الوطني، خصوصاً مع المؤشرات السلبية جدا التي يحملها العقار منذ أكتوبر الماضي.
إنشرها