Author

المصارف للمرة «الألف».. التلاعب بالمعادن

|
كاتب اقتصادي [email protected]
« كلما زاد حجم المعلومات عنا لدى المصارف، قل وجودنا» مارشال ماك لوهان فيلسوف كندي يبدو أن المخالفات (وأحيانا الجرائم) التي ترتكبها المصارف لا حدود لها، ليس فقط من حيث حجم الأموال العائدة من هذه المخالفات، ولكن أيضاً من جهة تنوعها. وهي تراوح ما بين الجنح والجرائم، ولنا أن نتخيل الأضرار الناجمة عن مثل هذه الممارسات. كانت المصارف على مدى سنوات طويلة تعتقد، أنها عصية على الوقوع في أيدي العدالة. ولولا الأزمة الاقتصادية العالمية، لاستمرت المصارف بسلوكياتها، لاسيما تلك التي تمثل جزءا أصيلا من الهيبة الاقتصادية لبلدانها. والحق، أن كل ما كتب عن مخالفات وجرائم المصارف، لم يحط بما يكفي من الحقائق، والممارسات خلف الخزائن، وسياسات القفز فوق اللوائح والمعايير. وسينقضي وقت طويل، حتى يمكن اعتبار أن المصارف تعرت بما يوازي مخالفاتها وآثارها في الناس والنظام المصرفي نفسه. حتى إدجار هوفر أول مدير لمكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية يقول: “المصارف لا تقاوم. لماذا؟ لأنها مغرية لأولئك الذين يسعون إلى صنع أموال لا يستحقونها”. وهو يعتقد أن المصارف غير المنضبطة، أو غير الخاضعة لرقابة حقيقية لا اسمية، يمكنها أن توفر العوائد المالية الهائلة، دون الحاجة إلى أن تسبقها رؤوس أموال. وهذه حقيقة بالفعل، تجلت بوضوح في أعقاب الأزمة العالمية، التي تحولت إلى آلية لا شبيهة لها من حيث القوة، لتعرية كل شيء. المصارف والحكومات والمؤسسات المالية بكل أنواعها. والأهم عرت المبدأ المروع الذي يقول: “السوق لا تخطئ. وإن أخطأت فإنها تصحح نفسها”. الذي حدث، أن السوق بمؤسساتها المالية المحركة الأولى لها، لم تصحح نفسها، بل لجأت قسرا وطوعاً للحكومات لإنقاذها. لتتم عملية الإنقاذ هذه من أموال المتضررين أنفسهم، بعد تبييض الأموال، وتضليل المودعين والمتعاملين، وحماية المتهربين من الضرائب، والتلاعب بأسعار الصرف وسعر الفائدة الدولي، وفتح حسابات لمنظمات إرهابية إجرامية، وتخزين الأموال المنهوبة من الشعوب، تواجه المصارف حالياً قضايا جديدة تتعلق بالتلاعب في أسعار المعادن، وهذا التلاعب تم على مدى سنوات طويلة، أي أنها كما المخالفات والجرائم الأخرى، حققت مكاسب هائلة من جراء هذا التلاعب. والحق، أن أحداً من المتابعين لم يفكر في مثل هذه المخالفة الجديدة القديمة. بل إن نسبة من هؤلاء اعتبروا أنه ظهر ما يكفي من المخالفات، ليس فقط لكي تجبر المصارف على الاستقامة، بل أيضاً لكي تبدأ عملية تنظيف واسعة في القطاع المصرفي على الساحة الغربية على وجه التحديد. ويبدو أنه كلما ظننا أن عملية التنظيف سائرة بصورة مستحقة، تظهر حقائق ومعلومات جديدة لتعيد تقييمنا لهذه العملية. الأسماء المتهمة بالتلاعب بأسعار المعادن هي نفسها التي اتهمت في كل شيء تقريباً. يتقدمها مصرف “إتش إس بي سي هولدينجز” و”جولدمان ساكس” و”ستاندارد تشارترد”. ومن أيضاً؟ وحدة المعادن التابعة لـ “بي إيه إس إف” وهي شركة تعد من أكبر مؤسسات الكيماويات في العالم. وتأتي القضية الجديدة، بعد أقل من عام على قضية رفعت ضد المصارف أيضاً تتعلق بتلاعبها بالذهب. ومن يدري ربما وجدت هذه المصارف مدانة في التلاعب بأسعار علب الصفيح؟ والمعادن في القضية الجديدة تنحصر بصورة أساسية في البلاديوم والبلاتين. وهي صادرات تأتي نسبة كبيرة منها من دول إفريقية فقيرة. وعلى الرغم من أن القضية لا تزال في بداياتها، فلن يكون غريباً ثبوت تورط مسؤولين أفارقة في عمليات التلاعب هذه. وكل شيء يعود في النهاية إلى حيثيات القضية. تقول جهات الاتهام: إن المصارف المشار إليها قامت باستخدام معلومات داخلية حول مشتريات العملاء وطلبات البيع، للتربح من تحركات أسعار المعادن المستخدمة في منتجات تراوح بين المجوهرات والسيارات. أي أن هذه المعادن (إلى جانب البلاديوم والبلاتين) تدخل في كل شيء تقريباً على صعيد الإنتاج، وهذا يعطي مؤشراً على حجم الأموال التي حققتها المصارف المتهمة من جراء هذه العمليات المشينة. ولا غرابة أن تصل الغرامات إلى مئات الملايين من الدولارات. والحق أن هذه المصارف اعتادت منذ ثلاثة أعوام تقريباً على القبول بدفع الغرامات الهائلة، بل أعلنت بسرعة قبولها الغرامات بدلاً من المضي قدماً في طريق القضاء. بعض الغرامات وصلت إلى 16 مليار دولار، وبعضها الآخر إلى 15 مليارا. هل تكفي الحرب الراهنة التي تشن على المصارف؟ لا، لا تكفي إلا إذا خضعت أدواتها للتطور المستمر. والأهم، إلا إذا استطاعت السلطات المختصة الوصول إلى الحقائق الكاملة حول عمل المصارف على مدى قرابة ثلاثة عقود. صحيح أن العصر الذهبي للمصارف المنفلتة انتهى، لكن الصحيح أيضا أن من حق الأمم التي اكتوت بسلوكيات المصارف لفترة طويلة، التعويض. دون أن ننسى أن الأموال التي أنقذت المصارف المعنية كانت عامة، وبعضها لا يزال يضخ في خزائنها خوفاً من انهيارها. ولا شك أن الأهم من التعويضات، معاقبة المسؤولين على المصارف الذين مارسوا كل الموبقات المالية. ليس فقط لتحقيق أرباح غير مستحقة لمصارفهم، بل أيضا لجني أموال ومكافآت مشينة، وأحيانا تدعو إلى السخرية.
إنشرها