Author

المواطن .. كيف له فهم ما يجري حوله؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
استكمالا لما تم تدوينه في المقال السابق "المواطن وتراجع سعر النفط"، ومحاولة بناء تصور شامل ومبسط لفهم ما يجري في الوقت الراهن من تطورات، عنوانها الرئيس التراجع الأكبر لسعر النفط خلال أكثر من أربعة أعوام مضت (وصل منذ منتصف العام الجاري حتى يوم الجمعة الماضي إلى 36.0 في المائة)، والتوقعات السائدة هذه المرة باستمرار التراجع في سعر النفط، وبقائه ضمن نطاقات سعرية (60 دولارا كحد أدنى، 80 دولارا كحد أعلى) لنحو عامين أو أقل من ذلك، ولا يوجد حتى تاريخه تصور واضح حول المستقبل الذي يلي تلك الفترة، هل سيتغير لصالح نمو الأسعار، أم إلى مزيد من التراجع، أو استمراره ضمن النطاقات السعرية المشار إليها أعلاه. الأمور مرهونة بالعديد من المتغيرات العالمية، التي يغلب عليها الضبابية سواء تجاه اقتصادات النمو الأقوى وتحديدا في الصين والهند، أو تجاه الاقتصادات الضعيفة الأداء، التي يتركز ثقلها في منطقة اليورو، أو لدى مركز الثقل الأكبر ممثلا في الولايات المتحدة، تتشابك كل تلك المتغيرات في مسارات بالغة التعقيد، لا يظن أن أحدا يملك رؤية دقيقة حول تلك الفترة بعد عام 2017، إلا أنها ستكون حقبة من الزمن ستلي تقلبات يعبرها الاقتصاد العالمي وأسواقه، تحمل على كاهلها أعباء وتكاليف الإنقاذ المالي غير المسبوق الذي تم عقب تفجر الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008. الجدير التذكير به هنا، وفقا لبعض التقارير والرؤى الاستراتيجية العديدة، أن العالم بأسره على مختلف المستويات، ومنها بطبيعة الأمر الجانب الاقتصادي والمالي، يمر بحقبة زمنية مكتنزة بالكثير من التغيرات العميقة الجذور، التي يقدر أن تنتج تلك التطورات في نهاية أمرها شكلا آخر للاقتصاد العالمي، وتغييرا استراتيجيا في موازينه والقوى الأكثر تأثيرا فيه، بدأت هذه الحقبة بصورة أكثر جلاء بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، يقدر أن تمتد إلى المنطقة الزمنية الواقعة بين 2018 و2020، كان من أبرز من توسع فيها بالتحليل الشامل والعبقري المفكر الاقتصادي محمد العريان في كتابه الأشهر "عندما تتصادم الأسواق". جانب بالغ الأهمية بالنسبة للفرد، أن يدرك أن التقلبات الجارية أحداثها في الوقت الراهن، مرتبطة بتطورات وتغيرات سبقتها، وأنها أيضا تسير بالعالم وبالجزء الذي ينتمي إليه وبه دون أدنى شك، إلى شكل مختلف تماما لوجه العالم عما سبقه! إنها الحقبة العالمية التي تلت 1971 إلى 2001 (نحو ثلاثة عقود)، التي مر بها العالم بأسره وجرى بها من التغيرات الجذرية التي ما زالت ذاكرة نصف البشر تقريبا الأحياء اليوم عالقة فيها، هذه المرة قد تكون الحقبة أقصر زمنيا، إلا أنها بتأثير من تطور وسائل الاتصال والإعلام والارتباط بين أرجاء العالم، ستأتي أثقل وزنا وأعمق تأثيرا. حينما تأتي نظرة الفرد لما يجري أمامه من تطورات وتغيرات، وفق هذا المفهوم الواسع والشمولي، إن على مستوى التقلبات التي تعصف بأسواق المال والعملات والسلع من فترة إلى أخرى، وكما تمر به الأسواق العالمية في الوقت الراهن، أو على مستوى أداء الاقتصادات ومؤشراتها الأهم (النمو، البطالة، التضخم، الميزان المالي والتجاري)، أقول إن نظرة الفرد وفق هذا الإطار من المفاهيم الأوسع تجاه تلك التطورات والمتغيرات، ستتسم نظرته باستقرار وتفهم أكبر من غيره الذي قد يكون فوت على نفسه فرصة التكيف مع تلك التطورات، والأهم من ذلك الآثار التي تركتها تلك التطورات، كونها هي التي ستشكل الواقع الذي سيخضع للعيش فيه! إنه الإطار من المفاهيم التي يتسلح بها واضعو الخطط والبرامج المستقبلية، ومديرو الثروات، والمستثمرون الاستراتيجيون حول العالم، والباحثون عن انتهاز فرص النجاح والتفوق كل حسب مركزه وموقعه. إذا غابت فرصة هنا؛ فدون أدنى شك أن العديد منها قد يولد في مكان آخر! تنطبق هذه النظرة بالنسبة للمستثمر على أغلب الأسواق (أسواق المال، العقار، السلع، المعادن ... إلخ)، وتنطبق أيضا على خيارات الفرد البسيط الباحث عن فرصة عمل، أو في مواجهة أي من خياراته المعيشية البسيطة الأخرى كامتلاك السكن، أو تحسين ظروفه المعيشية، أو تعليمه أبناءه، أو تعامله وتكيفه مع المتغيرات من حوله محليا أو خارجيا. كلما اتسع مفهوم نظرة المرء تجاه ما حوله كلما زادت حظوظه في اتخاذ القرارات الأنسب بالنسبة له، ومن حسن حظه أن الأدوات المعاصرة المتقدمة في عالم الاتصال والمعلومات والإعلام في الوقت الراهن، توفر له هذه الميزة بصورة لم تكن حتى متوافرة لكيانات ومنشآت ضمت آلاف البشر قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت! وقد تصبح سلاحا بيده وتحت إمرته إن أحسن توظيفها واستغلالها، أو قد تتحول إلى سبب لهلاكه إن أساء استخدامها. كان لا بد من تدوين هذه الركائز المعرفية إن صحت الكلمة أمام القارئ الكريم، قبل أن أختتم هذه السلسلة الثلاثية من المقالات في الجزء الأخير منها يوم الأربعاء المقبل، الذي سينصب تركيزه على أبرز ما يجب اتخاذه من قبل المواطن والمواطنة تجاه التداعيات والآثار المحتملة في منظور الأعوام القليلة المقبلة، أبدأها بالجوانب المعيشية الأساسية (كالعمل، السكن، دخل/ادخار، تمويل/استثمار)، الذي يمثل (أي المواطن) بالنسبة للكاتب صلب الاهتمام ضمن هذه السلسلة القصيرة. كما لا بد من التطرق إلى ما يجب اتخاذه من قبل واضعي السياسات والبرامج الاقتصادية، والإشارة إلى الفرص المثلى التي لا يزال بأيدينا انتهازها، وضرورة العمل المشترك على إنجاحها في محيطنا المحلي اقتصاديا وماليا. ليست مبالغة على الإطلاق، القول إن الحقبة الزمنية المقبلة تحمل في جعبتها كثيرا من الإيجابيات التي تفوق عددا ووزنا جانب السلبيات، وتحديدا بالنسبة للمواطن! لعل أولها هو انخفاض تكاليف المعيشة، التي طالما أرهقت كثيرا ميزانية الأفراد طوال العقد الماضي، والتحسن الذي سيطرأ على دخله الحقيقي بما يرفع من مستوى رفاهيته، مقابل تآكل قوة دخله الحقيقي بنسبة فاقت 55 في المائة في وقت مضى. الجانب الآخر، أن بلادنا واقتصادنا سيكونان في وضع مالي متين جدا وهما يعبران الفترة الزمنية المقبلة، وهو الوضع المالي الجيد الذي أرجو أن يتم توظيفه في تعزيز الوضع الاقتصادي الهش إلى حد بعيد، بسبب زيادة اعتماده على دخل النفط طوال العقد الماضي، كما سيتم إيضاحه في الجزء الأخير، وكما سبق أن تم إيضاحه طوال الأعوام الماضية في أكثر من مقام ومقال، والتأكيد على أن الحقبة المقبلة قد تحمل الفرصة الأهم لاتخاذ هذه الخطوة الاستراتيجية البالغة الأهمية بالنسبة لواضعي ومنفذي السياسات الاقتصادية لدينا، ولا يعلم كما تمت الإشارة إليه أعلاه، كيف سيكون الوجه الجديد للاقتصاد العالمي بعد عام 2018. إلى الملتقى قريبا في الجزء الأخير من هذه السلسلة الثلاثية. والله ولي التوفيق.
إنشرها