Author

آفات النمو الاقتصادي .. دعم الطاقة مثالا (2)

|
تتجه أنظار أسواق الطاقة اليوم إلى فيينا لمتابعة المؤتمر الصحافي الذي سيعقد بعد الاجتماع المغلق لرؤساء وفود الدول الأعضاء لـ"أوبك" وذلك لاختبار موقف المنظمة الذي يشهد انقساما واضحا نحو قدرتها على تحمل ظاهرة انخفاض أسعار النفط وآثارها في اقتصاداتها. فإيران وفنزويلا والعراق أعلنت صراحة عن قلقها البالغ نحو الانخفاض السريع لأسعار النفط بعد استقرارها لعدة أعوام حول 110 دولارات للبرميل، بينما تبنت دول الخليج نبرة أكثر هدوءا بفضل حجم احتياطاتها من النقد الأجنبي حتى عندما كسرت الأسعار حاجز الثمانين دولارا نزولا. ظاهرة الانخفاض السريع هذه لم تكن متوقعة قبل ستة أشهر، ولا شك أن استقرار أسعار النفط في المستويات الحالية سيربك موازنات الدول النفطية. إلا أنه قد يشكل في الوقت ذاته فرصة لا تعوض لإجراء مراجعة شاملة وصادقة لسياساتها الاقتصادية وتحرير مصائر مجتمعاتها من آثار تقلبات أسعار النفط. ومن أبرز السياسات التي تحتاج إلى وقفة جادة هي مسألة دعم أسعار الطاقة للاستهلاك المحلي وآثارها في الموازنات الحكومية واستدامة النمو الاقتصادي. ولعلي أشير مرة أخرى إلى التجربة المصرية التي اتخذت قرارا جريئا برفع أسعار الطاقة وبنسب عالية في الأول من يوليو لهذا العام أي بعد الانتخابات الرئاسية بفترة وجيزة. فتوقيت القرار كان هاجسا للحكومة إلا أن طبيعة التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري وآثارها الحادة في المجتمع حسمت الموقف عندما وصلت تكلفة الإعانات الحكومية للطاقة إلى خمس الموازنة في الوقت الذي تواجه فيه عجزا يصل إلى 12 في المائة إلى جانب ديونها الخارجية الضخمة. وكان هناك نداء مستمر منذ العقد الماضي لإقرار خطة تهدف إلى رفع الدعم بشكل متدرج عن الطاقة إلا أن كبار المستهلكين خاصة من قطاعي الصناعة والتجارة قاوموا أي تحركات تخدم هذا الغرض بزعم أن المتضرر الأكبر هم الأفراد خاصة ذوي الدخل المحدود. وأدى تأجيل النظر في ذلك إلى تقليص صادرات الغاز المسال نتيجة ارتفاع الطلب المحلي الأمر الذي أثر في الأوضاع المالية لشركة البترول الوطنية فتأخرت بالتالي عن سداد مستحقات شركات الطاقة الأجنبية التي وصلت إلى نحو ستة مليارات دولار. حينها بدأت بعض تلك الشركات بإجراءات الانسحاب من الساحة المصرية لتدارك الخسائر وارتفاع معدلات المخاطر الاستثمارية الأمر الذي قد يصل إلى حد انقطاع الإمداد الداخلي تماما والاعتماد الكامل على الغاز المستورد. كما ساهم هذا الوضع في الانقطاع المتكرر والمطول للكهرباء حيث توقفت 30 - 40 في المائة من إجمالي السعة الإنتاجية لمحطات التوليد عن العمل بسبب عدم وصول الغاز إليها. الجدير بالذكر أن مصر غنية نسبيا بموارد الطاقة، حيث اكتشفت العقد الماضي كميات هائلة من الغاز تكفي إمداد حاجة دولة صناعية بحجم بريطانيا لأربع وعشرين عاما. وأصبحت ثاني أكبر منتج للغاز في إفريقيا بعد الجزائر. إلا أن السياسة الاقتصادية المتبعة في ذلك الوقت والمتمثلة في الدعم المسرف جعلت من مصر اليوم مستوردة صافية لموارد الطاقة وخلفت وراءها تركة ثقيلة جدا للحكومة الحالية. ومما لا شك فيه أن الخطة التي أقرتها الحكومة لرفع أسعار الطاقة بنسب عالية خلال السنوات الخمس المقبلة سيكون لها أثر بالغ في شرائح المجتمع كافة، حيث ارتفعت أسعار البنزين إلى 80 في المائة وأسعار الغاز للاستهلاك الصناعي ما بين 30 إلى 70 في المائة (حسب حجم الاستهلاك) إلى جانب ارتفاع معدل تعرفة الكهرباء بنسبة 30 في المائة لهذا العام فقط. كما ارتفعت أسعار الخدمات كالنقل العام والسلع الاستهلاكية بصورة ملحوظة الأمر الذي أثر بشكل حاد في القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود. إلا أن الحكومة قامت بهيكلة رفع أسعار الطاقة، حيث تتحمل الشرائح ذات الاستهلاك العالي كامل التكلفة بينما تتحمل الشرائح ذات الاستهلاك المنخفض 80 في المائة من التكلفة بنهاية العام الخامس. لا شك أن نسب رفع الدعم بهذه المعدلات تعتبر عالية بكل المقاييس خاصة على ذوي الدخل المحدود إلا أن الوفر الناتج عن رفع الأسعار خفض حجم إعانات الطاقة من 144 إلى 100 مليار جنيه في موازنة العام الجاري الأمر الذي مكن الحكومة من مضاعفة حجم الإعانات الاجتماعية لذوي الدخل المحدود كما رفعت حصص الإنفاق الحكومي في مجالي الصحة والتعليم. هذه الإجراءات وحدها رفعت سقف توقعات نمو الناتج المحلي لتصل إلى 3.5 في المائة في العام المقبل ثم إلى 5 - 6 في المائة في 2016 مقتربة إلى معدلاتها السابقة في نهاية العقد الماضي. حتى قطاع السياحة سجل نموا كبيرا هذا العام، حيث وصل إلى 160 في المائة مقارنة بالعام الماضي الأمر الذي يعد مؤشرا لاستتباب الأمن ويعزز من توقعات النمو الاقتصادي. وكما سنرى في المقال المقبل، إصلاح نظام دعم الطاقة لم ينقذ قطاعي الغاز والكهرباء في مصر فحسب، بل كان عاملا رئيسا في جذب اهتمام استثمارات أجنبية متخصصة في مجال الطاقة المتجددة وإطلاق صناعة تمويل كفاءة الطاقة التي ستتبناها قطاع التمويل المحلي.
إنشرها