ثقافة وفنون

طقوس امرأة أفغانية .. شغف يدمِّر الحياة

طقوس امرأة أفغانية .. شغف يدمِّر الحياة

في مشهد افتتاحي بديع، تقترب المصورة الصحافية الإيرلندية "ربيكا" بأنفاس مبهوتة من مجموعة من الأفغانيات، وقد اتشحت هي الأخرى بالسواد وغطت رأسها لتحتذي بهم. وقفن في دائرة يتمتمن بآيات قرآنية أمام قبر مفتوح، تمتد فيه امرأة بثياب ملونة، تصور ربيكا الموقف المخيف، ليفاجأ المشاهد بأن المرأة المستلقية في القبر تفتح عينيها، وتخرج من الحفرة بصمت وأريحية مدهشين. استهلال الفيلم الدرامي "للمرة الألف.. ليلة سعيدة"، لم يكن إلا بداية طقوس امرأة أفغانية في كابل، عزمت بقناعة تامة على "الاستشهاد" أو الانتحار عبر حزام ناسف. لا تكتفي ربيكا بتصوير ذلك، تشعر فجأة، بتيقظ في حواسها كمدمنة للمخاطر، تطلب بهوس أن تتوجه مع الانتحارية في السيارة ذاتها إلى مكان التفجير، تتأمل المشهد وتستمر في التصوير، حتى يرديها انفجار القنبلة أرضاً. ذاك جزء من تلك اللقطات المهولة في الفيلم الذي أخرجه النرويجي إيريك بوب، في عام 2013، فعكس مدى افتتانه بالتصوير الصحافي المختص بتغطية الحروب، وقد ظهرت سمة تأثر شخصي بعمله في فترة الثمانينيات في المجال ذاته، في أماكن الحروب كأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط. تتقلب ربيكا بين لمعانها كمحترفة تصوير جعلت منه ملاذها، تعبر من خلاله عن مشاعرها وقلقها، وتنفث غضبها، ليحتفي بها الآخرون، وبين قلق أسرتها من تلاشيها المفاجئ عن الوجود بسبب تهورها في إحدى مهماتها. عمّق من حضور شخصية ربيكا تأدية الممثلة الفرنسية الخمسينية الأنيقة جولييت بينوش لدورها، التي أتقنت أدواراً عدّة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، أهمها المريض الإنجليزي في عام 1996، وشوكولا في عام 2000. وتتقارب توجهات بينوش مع المخرج في محاولتها الكشف عن أهوال الحروب للآخرين. وقد انضمت في عام 2000 إلى شبكة "إعلاميون بلا حدود"، في محاولة لتعزيز دورها في توعية الآخرين. في مشهد سريالي، تحدّق ربيكا من خلال نافذة منزلها في دبلن، فلا تلحظ إلا بشراً فزعين ونساء مخفيات لملامحهن، في محاولة للوذ بالهرب من مواقع حرب دامية. هناك استدلال عميق من عنوان الفيلم "للمرة الألف.. ليلة سعيدة.."؛ حيث يعكس ذلك قلق زوج ربيكا وابنتيها من أن توديعها لهم قد يكون آخر مرة، وأنها ستتوارى بعدها عن الأنظار، إثر إصابتها أثناء تصويرها لإحدى أهوال الحروب. يصفها زوجها باختصار بأنها باستمرار، " في انتظار للقطة القادمة"، يهددها وكأنه سئم استبدال الأدوار، حين يكون هو من يجب عليه الانتظار، وتخوض المرأة الأم والزوجة المخاطر من أجل الصورة الأفضل. لم يعد يطيق انتظاره مكالمة تبلغه بوفاتها إثر حادث في إحدى المواقع الخطرة. يعيق نجاحها. يجبرها على الاختيار بين عملها أو أسرتها بأسلوب يحمل طيفاً من الأنانية، التي تعترض عليها الابنة الكبرى حيث تصيح بإنكار: لماذا عليك أن تتدخل في كل القرارات؟ لفترة تخضع لتأنيبه لحماستها لعملها، التي تسببت في اختفائها عن حياة أسرتها وابنتيها. تظهر سلطة محاكمة الآخرين لشغف المرء، خصوصاً إن كان يتسبب في إرباك نظام حياتهم، والمس بذلك الشعور بالأمان. تتجلى جمالية الفيلم في التصوير السينمائي، المتنقل ما بين كابل وكينيا ودبلن، "وأحد مستشفيات دبي". يبدو الفيلم كسلسلة من الصور الفوتوغرافية البديعة، تتفاوت بين الدول النامية ذات الأوضاع المأساوية والطبيعة الصحراوية القاسية، ومناظر أخرى تعكس الغرب بلقطات تركز على شواطئ ذات زرقة شفافة ورمال بيضاء ناعمة. وكأن هناك طيفاً من المبالغة في تعميق الصدمة الحضارية، وتهويل الآخر. يتعالى في كل من كابل ودبي صوت الأذان طوال الوقت، وكأن هناك محاولة لإقحام الفروقات الدينية، والكشف عن أزمة طبقة بورجوازية مرفهة، ومنظور أوروبي لمواقع الحروب يزيد من تهويلها، خصوصاً أنه اعتاد حياة عصرية مرفهة. هناك محاولة للكشف عن الجانب المظلم للحياة. عن المآسي التي يعيشها الآخرون في بلدان يغيب عنها الأمان. في مخيم للاجئين في كينيا، تنسى ربيكا ذعرها فتصور أفواجا من البشر، يتسارعون هرباً من مسلحين دمويين. فتشعر بالاستفزاز في أحايين عديدة، وكأن على المصور أن يترك تلك الكاميرا ويساعد الآخرين. يبزغ الشعور بعقدة ذنب الرجل الأبيض، والحاجة إلى الكشف عن المآسي للمرفهين الآخرين. ليحوي فيلم "للمرة الألف.. ليلة سعيدة.." نوعاً من التنظير، ومحاولة إقحام رأي المخرج بأهمية تصوير المآسي بأسلوب مفتعل، إضافة إلى وجود حالة أشبه بالانفصام في الفيلم المنقسم ما بين الجانب الدرامي لتصوير مآسي الحروب، والخضوع للشعور بالذنب إثر التقصير في حق الآخرين. ويبقى ذلك الجموح والاندفاع لتحقيق أهداف ربيكا، ونقل الحدث بصورة تنطق، ليطغى على كل شيء آخر في حياتها. * كاتبة وروائية سعودية
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون