العالم

لبنان وسورية .. علاقة محكومة بالتوجس و«مأساة» وحدة المسار والمصير

لبنان وسورية .. علاقة محكومة بالتوجس و«مأساة» وحدة المسار والمصير

لبنان وسورية .. علاقة محكومة بالتوجس و«مأساة» وحدة المسار والمصير

في شارع مار الياس التجاري داخل مدينة بيروت، تجلس "ناريمان" خلف الصندوق في متجر الأحذية، وهي تجري محادثة هاتفية بخصوص ولدها والصعوبات الّتي يعانيها في مجاراة المنهج التعليمي اللّبناني، على الرغم من أنّها سنته الأكاديمية الثانية خارج بلده سورية. أحد الباعة أيضاً وافد من سورية وهو يقف بعيداً عن البائعين الاثنين الآخرين، ويبدو الأكثر حماسة بينهما، ومندفع لإثبات جدارته في البيع. عند سؤاله عن المنطقة الّتي نزح منها، يتردّد البائع الذي يقول "ناديني أبو فهد"، ويخاطب النسوة مستعملاً تعبير "أختي" قبل أن يجيب، ثمّ يقول "حلب، إدلب". "لا تقحمينا في السياسة"، عبارة بات الكثير من النازحين السوريين إلى لبنان يستخدمونها كأنّهم سئموا ما يجري في بلادهم منذ أكثر من ثلاث سنوات، أو كأنّهم عادوا إلى نقطة الصفر، حين كان الكلام في السياسة ممنوعاً عليهم. وبحسب الناشط المدني والحقوقي فادي شامية، فإنّ الخوف فعلياً عاد ليعمّ بين السوريين الموجودين في لبنان، إلى درجة أنّه لم يعد هناك شخصية معارضة ذات وزن في بيروت. "كلّهم رحلوا.. يكاد لبنان يبدو لهم كإنتاج آخر للاستبداد الذين عانوه، وهناك تواطؤ بين شريحة سياسية وأجهزة أمنية لكي لا تعبر الجالية السورية في لبنان عن آرائها السياسية". وهذا ما تؤكده مصادر سورية معارضة، وتقول إن "الاعتدال السوري قد اضمحلّ ليُستبدل بالحركات الأصولية والإرهابية. نحن موجودون، لكن لم يعد لنا منبر... وليست سورية داعش أو جبهة النصرة. هناك فئة من الصامتين حاليا، المترقبين لما يحدث، لكن هذا لا يعني أنّهم لا يحاولون مقاومة السيناريو المفروض حالياً: إمّا داعش وإما بشار الأسد".  لقد وصلت الأزمة السورية إلى لبنان، على الرغم من الجهود الدبلوماسية الخجولة لدرء الخطر عن "الجار". لم يحترق البلد كلياً، كما هدّد الأسد سابقاً، لكن انعكاسات الوضع الإقليمي قادت لبنان إلى حالة شلل في معظم المؤسسات الرسمية، وإلى تمديد جديد لمجلس النواب وحالة اقتصادية مزرية. "لقد أثّر دخول حزب الله بشكل كبير على وجود السوريين في لبنان"، يشرح شامية ويضيف إن "تحالف الحزب مع التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون والمعروف بنزعته العنصرية تجاه السوريين أجّج الوضع وأدّى إلى تفاقم ممارسات استبدادية ضد النازحين". في محصلة الأمر، ومع مصادرة الثورة السورية، باتت الآن شريحة من النازحين، خصوصاً الموجودين في جرود عرسال والمناطق النائية متعاطفة مع داعش والنصرة، بحسب شامية. "لا يمكن إخفاء الأمر، نصف النازحين في عرسال، بحسب عملي عن كثب معهم، طوروا شعوراً عاطفياً تجاه هذه الحركات ظنّاً أنّها تحميهم، أو ربما وجدوا فيها متنفسّاً للاحتقان الطائفي والمذهبي ولغضبهم إثر دخول حزب الله إلى سورية". "هؤلاء الذين نزحوا من مناطق كالقصير أو القلمون، حيث كان وجود حزب الله فيها كبيراً، يعتبرونه المسؤول عن تهجيرهم وعن حالة التشرّد التي وصلوا إليها، وبالتالي هم مستعدون لنصرة كل من يعارضه أو يتوعّد بمحاربته"، يقول شامية. لكن مصادر مقرّبة من حزب الله تبرّر تدخل الحزب قائلة إن "التكفيريين كانوا ليدخلوا لبنان عاجلاً أو آجلاً... بغض النظر عن تدخل الحزب في سورية". وتعزي المصادر هذا التدخل إلى الدفاع عن المقامات الدينية والحاجة إلى تأمين ممرّ آمن للسلاح الذي يأتي إلى الحزب من جهات خارجية. "ربما لو ارتضت المعارضة السورية في البداية، خلال مفاوضات حاولت أن تسيّرها حماس بين المعارضة والحزب في بداية الثورة، التي طلب خلالها حزب الله ممراً لأسلحته وتنظيم إحدى المظاهرات تحت عنوان الموت لإسرائيل، وذلك لطمأنته، لما كان الحزب قد تدخّل". في الجهة الأخرى من البلاد، طرابلس العاصمة الثانية للبنان وثاني أكبر مدنه، حيث شهدت أخيراً اشتباكات بين المسلّحين والجيش اللبناني، لسان حال الشارع "لن تنتهي الأزمات في لبنان حتّى تظهر بوادر انفراجات في سورية". وحكاية طرابلس مع المخابرات السورية تمتد إلى سنوات بعيدة، حيث مارس النظام البطش والجرائم في هذه البقعة الجغرافية، مخلّفاً في كل بيت من بيوت المدينة الشمالية حكاية عن الاعتداء والاغتصاب والمرارة. المعارك الشمالية هذه المرة انتهت في غضون أيّام من دون أن يتمّ إلقاء القبض على المتّهمين بأنّهم وراء هذه الأحداث، ومن دون أن تتمكّن ضربة الجيش الليناني أن تكون القاضية والأخيرة، وبالطبع مع تسجيل خسارات هائلة في أرواح مدنيين وممتلكات أبناء المدينة ومحالهم التجارية، حيث درات المعركة هذه المرة في الأسواق القديمة، آخر ما تبقى من الآثار المملوكية في طرابلس. #2# وبحسب مستشار رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي خلدون الشريف، فإنّه "لا يمكن النظر إلى معركة طرابلس من منظور عسكري وأمني فقط، بل منظور واقعي واجتماعي، وهذا ما أدّى إلى حسم المعركة بسرعة والحدّ من تفاقهما، خصوصاً أنها كانت دائرة في منطقة فيها اكتظاظ سكني هائل. وإن استمرارها كان يمكن أن يزيد من الشعور السلبي تجاه الجيش اللبناني". ويشير الشريف إلى أن السفارة الأمريكية والدول الغربية تكون السباقة إلى إدانة العنف في لبنان، وإلى دعم المؤسسة العسكرية والالتفاف حولها، مما يشير إلى قرار إقليمي بحفظ الاستقرار في الوطن". ولكن ماذا عن تأثير تدخّل حزب الله في سورية؛ إذ يشيد الشريف بسياسة النأي بالنفس على مستوى لبنان الرسمي، يقول إن هذا التدخل "لم تتمّ معالجته على مستوى من يعارضه بالشكل اللازم الذي يخدم لبنان الرسالة". مسألة طرابلس بمنظور النائب الشمالي عن "تيار المستقبل"، أحمد فتفت، تعاني مشكلة ثلاثية الأبعاد: سياسية/أمنية، اقتصادية واجتماعية. وإذ يشجب رفض المسؤولين إقرار ما يكفي لإنماء طرابلس، فهو يعتبر أن البعد السياسي المرتبط بالنظام السوري ووجود أدواته في طرابلس، إضافة إلى معضلة سلاح حزب الله غير الشرعي لا يقل أهمية عن الوضع المعيشي. "هذه العوامل كلها تجعل طرابلس المنطقة الأكثر حساسية وهشاشة على كل المستويات، وبالتالي تحولها إلى امتداد للأزمات الإقليمية، تحديداً السورية". كلّ هذه التبريرات لا تقنع "أبو أدهم الصوفي"، الذي يلوم الأداء السياسي اللّبناني، بكل مسؤوليه على الوضع الذي آلت إليه طرابلس. "نحن نحب السوريين ونتفهم ما عانوه، لكن نريد أيضاً أن نرتاح... ما علاقة سورية بغياب الإنماء؟ هذه حجج، ليس أكثر"، يقول وهو يشير إلى المحال التي أقفلت قرب محله التجاري في سوق البازركان. "الناس... الناس ملّت كل ما يجري. نريد أن نعيش". وبحسب الصحافي والمحلّل السياسي علي الأمين، "لم تنته الأزمة السورية بعد، والمشهد السياسي والميداني لا يوحي بأن مسار الأحداث يتجه نحو نهاية قريبة للحرب الدائرة والمتشعبة في أكثر من اتّجاه داخلي أو إقليمي ودولي، المأساة السورية لم تكتمل فصولها على ما يبدو، وشلال الدم ومأساة التهجير وعدّاد الموت في وتيرة متزايدة". ويتابع الأمين: "كل ذلك وسواه من تداعيات المأساة السورية، يثقل كاهل لبنان بأثقال شتى، يحكمها واقع الجيرة بين البلدين، ونزوح نحو أكثر من مليون لاجئ سوري إلى لبنان، بكل ما يحمله هذا النزوح من أبعاد انسانية واجتماعية واقتصادية. لكن في هذا الخضم تبرز إشكالية انخراط حزب الله في القتال داخل الأراضي السورية، قتال تدرجت ذرائعه من حماية لبنانيين على الحدود مع سورية، إلى حماية المقامات الدينية وصولا إلى الدفاع المعلن عن نظام الأسد في "مواجهة المؤامرة الأمريكية والصهيونية"، عليه وأخيراً مواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية في هذا البلد دفاعاً عن لبنان". ويعتبر أن الذرائع وتبدلها يعكس إرباكا لدى حزب الله في إقناع اللّبنانيين وحتى قاعدته بتدخله العسكري والمباشر في القتال على الأراضي السورية، ويشير إلى وجود "قلق جدي من أن يستتبع هذا التدخل إغراق لبنان في هذه الأزمة من خلال استدعاء ردود فعل أمنية وعسكرية عليه، وهذا ما يشهده لبنان اليوم منذ أكثر من عام عبر التفجيرات الانتحارية التي استهدفت مناطق خاضعة لنفوذ حزب الله أو عبر دخول جبهة النصرة عبر مجموعاتها إلى الأراضي اللبنانية ومباشرتها قتال حزب الله في أكثر من منطقة على الحدود الشرقية". وإلى جانب هذه التداعيات، بحسب الأمين، "لا يخفى على المتابع التأثير السلبي الذي سببه انخراط حزب الله في القتال على تعميق الأزمة المذهبية السنية-الشيعية ليس بين لبنان وسورية فحسب بل في الداخل اللبناني أيضا". ويضيف الأمين: "لعل اللبنانيين على العموم يدركون أن تدخل حزب الله في الشأن السوري وإن كان استجابة لمصالح إيرانية بحتة لا تعني الشعبين اللبناني والسوري، فإن قلقا يعززه تاريخ الوصاية السورية على لبنان يبرز اليوم من أن يشكل قتال حزب الله كذريعة لأي نظام سوري مقبل بعد سنوات لممارسة فعل استقواء أو ثأر على لبنان". ويختم قائلاً: "لا يمكن وصف قتال حزب الله في سورية الذي أدى إلى سقوط نحو ألف من مقاتليه قتلى وجرح الآلاف إلا بالمغامرة التي يتلقى لبنان نتائجها السلبية في الحاضر، وسيدفع أثمانا لها في المستقبل أيضا، وهي بلا شك أثمان سياسية واجتماعية واقتصادية، والأهم هو تلك العلاقة التي ستبقى محكومة بعدم الثقة والتوجس المتبادل بين سورية ولبنان".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم