Author

«نهائي الفساد» بين «الشورى» و «نزاهة»

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
ناقش مجلس الشورى التقرير السنوي الأخير للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، وحسبما تسرب من تفاصيل التقرير، أن "نزاهة" وقفت على 1018 مشروعا أثناء تحريها عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقود المشاريع الحكومية، واكتشفت حالات تعثّر وتأخر وسوء تنفيذ 789 مشروعا منها، أي ما نسبته 77.5 في المائة من إجمالي المشاريع الحكومية إما متعثرا وإما متأخرا أو يعاني سوء التنفيذ. وبينت "نزاهة" في ختام تقريرها السنوي أن أكثر أنماط الفساد الإداري انتشارا في أجهزة الدولة، تركّز في التسيب الوظيفي، الواسطة، الرشوة، سوء استخدام السلطة، تبديد المال العام، الاختلاس، التزوير، الابتزاز المالي، الاحتيال، والتحايل على الأنظمة والقوانين. أخيرا تمخض قياس "نزاهة" للمستويات في المملكة عن تراجع معدل الفساد الإداري إلى 2.2 درجة من 10.0 درجات (بمعنى أن نسبة الفساد لا تتعدى 22 في المائة)، والسبب الرئيس وراء تراجع ذلك المعدل كان لانخفاض عدد البلاغات الواردة من المواطنين عن ممارسات الفساد! هكذا جرت نقاشات ملف الفساد بين كل من مجلس الشورى والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، فماذا كانت النتيجة؟ أعتقد أن الفائز في هذه المباراة الفاصلة والنهائية هو "الفساد"، وأن الفريقين تلقيا خسارة فادحة في ثاني نهائي لهما على التوالي! نتجت هذه الخسارة عن أخطاء استراتيجية وتكتيكية في أسلوب كل من الفريقين، أبينها الآن فيما سيأتي من المقال. بدا واضحا أن عمل "نزاهة" لا يزال في بداياته غير الاحترافية، وأكثرها سوءا غير المهيبة لدى بقية أجهزة الدولة! فما زالت كما تضمن تقريرها تعتمد بصورة أكبر من غيرها على "بلاغات" المواطنين، بل إنها اعتبرت انخفاض عدد تلك البلاغات مؤشرا على تراجع مستويات الفساد، وارتفاع مستوى الوعي لدى المواطنين بعد معرفتهم بما يدخل ولا يدخل في اختصاصات الهيئة. حينما تكتشف أن عمل جهاز حكومي بالغ الحساسية والأهمية كعمل "نزاهة" يتم في أغلبه وفق هذه الآلية، ويتمخض عن "فتات" هذه النتائج السطحية، ثم يتلقّفها مجلس الشورى بضربات مؤيدة ومعارضة، دون أن يتعمق بمسؤولية واحترافية، فيما وراء ما غاب عن التقرير السنوي للهيئة، سواء من حيث الآليات والإجراءات، أو من حيث شمولية الرقابة والمحاسبة، أو من حيث النتائج والتوصيات التي وصل إليها. ثم تنتهي النقاشات "السرية" بعيدا عن حضور وسائل الإعلام الرسمية، على ديباجة عنوانها الرئيس (تم الاطلاع والمناقشة)، دون توصيات وبرامج محددة لأجل مواجهة خطر العدو اللدود لأي اقتصاد حول العالم ممثلا في الفساد كما يجب أن تكون المواجهة! فلا شك أن "الفساد" هو المتوج في هذه المعمعة التنموية. هل يعلم كل من مجلس الشورى والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" أن عدد المشاريع الحكومية منذ تأسست الأخيرة، وصل حتى العام المالي الجاري إلى 8958 مشروعا حكوميا، بقيمة إجمالية معتمدة بلغت 1.1 تريليون ريال! فماذا يعني وقوف الهيئة على 1018 مشروعا؟ سوى أنها لم تؤد من واجباتها تجاه هذا الملف الأهم على الإطلاق والرئيس وراء تأسيسها ووجودها أكثر من 11.4 في المائة (نسبة المشاريع التي وقفت عليها مقارنةً بإجمالي المشاريع الحكومية منذ تأسيسها). وقس على بقية الاتجاهات، عوضا عن أن تقتحم قلاع الأجهزة الحكومية، لتقوم بالإشراف والرقابة والمحاسبة والمتابعة على عمل تلك الأجهزة، وقياس درجة الأداء الفعلي مقارنةً بما نصت عليه الأنظمة التأسيسية لتلك الأجهزة، والتدقيق في إدارة موارد الميزانية المخصصة لها سنويا، ويتم كل ذلك استناداً إلى المسؤوليات والصلاحيات الواسعة الممنوحة لها من خادم الحرمين الشريفين ، فأي (فقد) هائل الحجم والقيمة هنا تورطت فيه "نزاهة"؟ وأي (فقْد) أكبر منه ألحقه بنا مجلس الشورى في هذا الخصوص؟ تبدأ المواجهة الحقيقية للفساد بكل أشكاله وصوره من داخل الأجهزة الحكومية التنفيذية، وعلى الهيئة أن تدرك هذه الفكرة قبل غيرها من أجهزة الدولة، وأن تعمل على مدار الساعة لأجل تحقيقها على أرض الواقع، وليس عن طريق بلاغات المواطنين! لقد ضربت ثلاثة أجهزة حكومية أمثلة رائعة في هذا الميدان، واللافت جداً أو العامل المشترك بين نجاحات تلك الأجهزة الحكومية الثلاثة، أنها قامت فقط بالتنفيذ الدقيق للمهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، فلم تقضِ على أوجه الفساد والقصور فحسب، بل آتت أكلها يانعةً كما أريد من إنشائها وتأسيسها، فأصبح أداؤها متسماً بالمبادرة قبل أن يتقلّص دوره فقط في مجرد مكافحة الفساد. الأجهزة الحكومية هي وزارة العدل، وزارة التجارة والصناعة، والهيئة العامة للاستثمار، كلها تتسابق في ميادين أداء الأدوار والمسؤوليات المناطة بها كما يجب أن تكون! الأولى (العدل) اقتحمت منطقةً طالما أحاط بها الظلام والتدليس والغش والتلاعب، استعادت بفضله عشرات المليارات من الأمتار من الأراضي المنهوبة بصكوك مخالفة، تُقدّر أثمانها بأكثر من تريليون ريال. والثانية (التجارة والصناعة) اقتحمت قلاع التجّار المدلسين ومرتكبي الغش والتستر، وأوكار الفساد في مختلف نشاطات التجارة والصناعة والخدمات في القطاع الخاص، لدرجة لم نعد نسمع معها تذمرا أو شكوى من المجتمع، إلا من أقطاب الجرائم التجارية والمتورطين في مخالفة أنظمة ولوائح الوزارة. والثالثة (الهيئة العامة للاستثمار) اقتحمت قلاع التسرب الاستثماري الأجنبي الذي ناهز على التريليون ريال، ولم نجنِ منه إلا الورطات الاقتصادية والاستثمارية، فأعادت تطبيق معايير جديدة لإصدار التراخيص للمستثمرين الأجانب، وإلزام من حصل عليها من المستثمرين السابقين بها، مستهدفةً الهيئة إعطاء الأولوية للشركات ذات القيمة المضافة الأكبر للاقتصاد الوطني، وارتفاع مساهمتها في تعزيز تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وقدرتها على توفير فرص العمل الملائمة للمواطنين. إنها جهود تستحق الشكر والتشجيع، كان قاسمها المشترك التطوير والإصلاح ومحاربة الفساد، أتت بدافعٍ ومبادرة من داخل تلك الأجهزة الحكومية الثلاثة، لم تنتظر لا رقابة "نزاهة" ولا حتى "استفسارات" مجلس الشورى. الواقع يؤكد أن كلا الجهازين «الشورى» و«نزاهة»، يهرولان متأخرين جدا خلف كل ما يجري في الواقع المعاش وتطلعات المواطنين والتحديات التنموية على حد سواء، وأنه لم يعد مجديا الخوض معهما في مناقشة ما يجب وما لا يجب. وأن الأجدى في الوقت الراهن تجاه تلك التحديات التنموية الجسيمة التي يواجهها الاقتصاد والمجتمع، هو التوجه مباشرة للأجهزة الحكومية التنفيذية بالنصح والنقد والتفاعل، ولعل في تطور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ما يوفر هذه الخاصية بفعالية أجدى وأكبر، وأن يترك للمجلس ونزاهة المجال ليتناقشا كما يشاءان في هدوء تام ودون ضجيج، بعيدا عن وسائل الإعلام بالدرجة الأولى بعد منعها من الحضور، وبعيدا عن مجتمع المواطنين في ساحات التواصل الاجتماعي. نجني كمجتمع ثمار التفاعل المثمر مع الأجهزة التنفيذية، فيما للمجلس ونزاهة أن يجنيا ما يشاءان، وكفى الله المؤمنين القتال! والله ولي التوفيق.
إنشرها