Author

الغلو في الخطاب يؤدي إلى التهلكة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الغلو والمغالاة والغلاة كلمات عربية أرى من الصعب إيجاد مرادف يعطيها حقها في الإنجليزية. يحضرني مفهومها ومعناها عندما أشتغل بتحليل النصوص بأصنافها المتعددة ولكنني لم أستطع تقديم معناها لقرائي بالإنجليزية من خلال مفردة واحدة حيث أستعين بعبارات وجمل لتقريب المراد. و"الغلو في الخطاب" تعبير استخدمته لأول مرة في زيارتي الأخيرة إلى المغرب حيث ألقيت بعض المحاضرات أمام جمهرة من المثقفين المغربيين بينهم صحافيون ومسؤولون كبار وسياسيون أرادوا أن يسمعوا ويتعلموا ويفهموا دور الخطاب في حرية الفكر والتعبير. وكانت فرصة طيبة أن أتحدث أمام جمهرة من المثقفين بلغة الضاد. في الحقيقة هذه كانت أول مرة لي أتحدث عن الخطاب ودوره المهم في حرية الصحافة بالعربية، وآمل أن أكون قد أفلحت في إيصال المعلومة. وما أثار دهشتي أن هذا العمود له قراؤه في المغرب حيث ذكرني به بعضهم. وفي الحقيقة كان هذا مثار فخر وتواضع في آن واحد. فخر لجريدتنا الغراء التي بدأ يصل صوتها إلى أقاصي الأمصار الناطقة بالعربية، وتواضع لأننا مهما ملكنا من علم ومكانة فنحن لا نزال طلبة العلم لأنني استفدت كثيرا من الزيارة والمداخلات مما حفزني على التفكير بجدية تأليف كتاب بالعربية حول مفهومي الخاص للخطاب وتحليله النقدي. وقد أبدى الإخوة في المغرب رغبتهم في دعم هذا المشروع والعمل الحثيث على إنجاحه. الغلو في الخطاب والمغالاة في الخطاب تعني ببساطة أنك تعبر عن فكر وتفسير وموقف محدد مستندا إلى نص محدد أو مصدر محدد وعليه ومن خلاله تؤلف أنماطا منسقة محددة للخطاب لا تخرج عنها مهما كلف الأمر ومن ثم تفرضها ليس على نفسك بل على الآخرين وفي النهاية تجبرك هذه الأنماط على الخروج من النسق الخطابي إلى النسق العملياتي أي تبدأ بممارسة الأنماط الخطابية على أرض الواقع. والشر والخير فكرة أي مفهوم نطبخه خطابيا أولا ومن ثم نطبقه من خلال أعمالنا. ليس هناك شر لا يسبقه غلو ومغالاة في الخطاب وليس هناك خير لا يسبقه الحوار الفكري المنفتح على النفس ومن ثم على الآخر. والشر بكل أصنافه منها حجب حرية التعبير والفكر والاستبداد بالموقف والممارسة ومنع الآخر حتى من التفكير والتعبير علنا لا بل اضطهاده وانتهاك حقوقه الإنسانية، إن فعل ذلك ما هو إلا "بطش خطابي" أي أنك تسحق الآخر من خلال قمعه خطابيا وذلك بمنعه ليس فقط أن يعبر عن رأيه بل حتى الاستناد إلى نص معاكس أو مختلف من الكتابأو المصدر ذاته الذي تقتبس منه وتطبخ على ناره أنماطك الخطابية. والبطش الخطابي أسوأ أنواع الاضطهاد لا بل أراه أقسى من القتل لأنك لا تقتلني عندما تجز رقبتي أو ترمي علي قنبلة زنة طن من المتفجرات من السماء أو تطلق رصاصك على رأسي. أنت تقتلني عندما تلغي ثقافتي والثقافة هي اللغة والخطاب الذي أريد أن أستخدمه أنا والذي يعبر عن خلجات نفسي التي فيها أستند إلى نصوص أخرى وتفاسير أخرى للكتاب أو المصدر ذاته الذي نقرؤه سوية. مصيبة البلدان الشرق أوسطية أنها تميل، لا بل تلتزم المغالاة في الخطاب وتنحو صوب "البطش الخطابي" الذي لا يدع مجالا للشك وإثارة الأسئلة وتقديم ما هو مخالف ومعارض – أي الرأي الآخر – استنادا إلى النصوص والمصادر ذاتها. في كل مجتمع هناك طبقة من المثقفين وهم أقلية ثقافتهم متوسطة ولكن تأثيرهم كبير لأن الغالبية تنجذب إليهم لاستخدامهم وتكرارهم أنماطا خطابية محددة تبدو للناس أنها هي الحق والحقيقة والعكس غالبا ما يكون صحيحا. شكرا للجمهور المغربي الذي استوعب هذه الأفكار وزاد عليها. وعدت بعد أسبوعين مكثفين بالعمل والمشاهدة وأنا قد زدت علما وتنويرا.
إنشرها