ثقافة وفنون

«مملكة بزوغ القمر» .. جزيرة يحكمها الأطفال ويخشاها الكبار

«مملكة بزوغ القمر» .. جزيرة يحكمها الأطفال ويخشاها الكبار

"نحن واقعان في الحب، ونريد العيش سوياً. ما المشكلة في ذلك؟" تختصر سوزي فلسفتها الحياتية النزقة بتلك العبارة. قد يبدو ذلك حباً أنيقاً، لكن حين تكتشف أن كلاً من سوزي وسام في الثانية عشرة من عمرهما، قررا الاندفاع بناء على أحاسيسهما، والهرب من المنزل والانطلاق دون تفكير في المستقبل، تعيد التفكير في تلك الجملة، وتود إعادتهما إلى العقلنة. تطغى لمسات المخرج الأمريكي ويز أندرسون، على فيلمه لعام 2012، "مملكة بزوغ القمر". فأندرسون يستكمل خطواته في الأفلام الغرائبية ذات الطابع الساخر الحزين. لقي الفيلم الأخير انبهاراً من النقاد، خصوصاً لتميزه بفكرة جيدة وإخراج متميز. واستمالة المشاهدين بالتركيز على اللون البني والأخضر في غالبية المشاهد، كتمثيل للبساطة، والرابطة القوية بين أهالي الجزيرة، والاستقرار. حيث يتمرد على تلك الرتابة كل من سوزي وسام، بالهرب سوياً، آخذين معهما قطة وعددا من الروايات الطفولية، وجهاز تسجيل، ومنظار في محاولة لتقريب البعيد. حيث طموحهما يكمن في عدم الالتصاق بمكان واحد، وعدم التكهن بمستقبل مجهول، ومحاولة التمرد على السلطة الأبوية، متمتعين بأحلام مراهقة مرفهة تعاند كل من خالفها. تعود أحداث فيلم الدراما النفسي، إلى عام 1965، في جزيرة افتراضية. يعيش سكانها حياة تبدو مثالية دون هموم ومخاطر. حيث يصبح الهم الشاغل للسكان هرب طفلين واقعين في الحب، يعكف الجميع على محاولة إيجادهما. ويتعزز دور طاقم الكشافة، برئاسة راندي وارد، الذي برع في أداء دوره "إدوارد نورتن"، بصرامته التي تخفي خلفها حساسية شديدة، حيال ما يعانيه أطفال الكشافة، ليجسد الكشافة دور الجماعة في بيئة يغلب عليها الطابع البدائي العفوي. حيث إن الطفلين بشخصيتهما الانطوائية لم يكتسبا في البداية دعم الكشافة، مما قلص من فرص نجاحهما بالفرار. التصوير السينمائي في الفيلم بدا مميزا، بحركة الكاميرا البطيئة، وتقريبها للوجوه المعبّرة، دون الاعتماد على الحوار الذي ظهر عملياً مقتضباً. استعان المخرج أندرسون كعادته بالممثل "بيل موراي"، الذي قام بدور والد سوزي الذي يحاول الحد من تمردها دون جدوى. يتكرر حضور موراي في خمسة من أفلام المخرج ذاته، ليبدو وجوده طقساً شبه إلزامي لأفلامه. يظهر فيلم "مملكة بزوغ القمر" كعالم خاص يوازي العالم الواقعي، حيث يحاول فيه أطفال متمردون الإمساك بزمام الأمور، والاعتراض على سلطة الكبار. فسوزي فاقدة للثقة بوالديها، تحمل معها كتاباً عن كيفية التعامل مع الأطفال المضطربين، وكأن من الأجدى بها الاعتماد على نفسها بعيداً عن والديها. يكشف الفيلم عن تلك القيود النفسية التي تمر بها الشخصيات. فوالدة سوزي تشعر بالاختناق في علاقة زوجية رتيبة، ومسؤوليات، وتعيش قصة حب سرية مع المحقق شارب، الذي أدى دوره الممثل "بروس ويليس"، في نمط مغاير للأفلام التي اعتاد اختيارها أقرب للإثارة منها للدراما. يعاني المحقق وحدة وجفافا عاطفيا، ويبدو متعاطفاً مع افتقار الطفل سام لحنان الأبوين، ويعزم على مساعدته مخالفاً قوانين عمله المتجرد من العاطفة. بجمالية مميزة، تظهر شخصيات البالغين غارقة في حيرة يغيب عنها العمق الوجودي، مترفة في عبث الفراغ وتكرار العمل ذاته، ومحاولة التملص من القيود اليومية. فيما يبرز أعضاء الكشافة من الأطفال كرمز للطاعة وتشرب القيم التي يمدهم بها الآخرون، دون اعتراض، بزي موحد، ومواعيد صارمة للنوم والوجبات. فيما تبزغ شخصية كل من سام وسوزي الانطوائيتين، والتي أسيء فهمها، كعناصر مخالفة للمعتاد. ومع تفاقم أحداث المطاردة، تشتد العاصفة والأمطار والصواعق المتسببة في طوفان متزامن مع ازدياد التعقيد في حبكة الفيلم. بديعة هي تلك الأفلام التي تجعلك تعيش عالماً خاصاً بقوانين مغايرة للواقع. حيث يظهر كل شيء مثالياً، وتتجلى هموم ثانوية. فلا وجود لشخصيات تحمل بذوراً للشر، باستثناء إخصائية اجتماعية قادمة من خارج الجزيرة، كدخيلة على المجتمع، تحاول وضع سام في برنامج صارم، بعد أن لفظه وتخلى عنه الآخرون بسبب تمرده. وهنا يعود دور الكشافة كجماعة تنقذ من يواجه الصعوبات. البراءة شعار تلك الجزيرة، خصوصاً حين يكون غالبية سكان الجزيرة من الأطفال، ويعكس المكان أحلام وطموحات وهواجس من تنقصهم الخبرة والوعي. وكأن ذلك العالم منعزل عن الآخرين متيحاً للأطفال المرور بتجربة السذاجة والحب الفتي، تماماً كذلك المشهد البديع للجزيرة الهادئة، بصخورها الصلدة التي تتلقى بصمت ارتطام أمواج عاتية، دون اضطراب.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون