ثقافة وفنون

العلوم الإسلامية ودورها في قيام النهضة الأوروبية

العلوم الإسلامية ودورها في قيام النهضة الأوروبية

العلوم الإسلامية ودورها في قيام النهضة الأوروبية

العلوم الإسلامية ودورها في قيام النهضة الأوروبية

يعد الباحث اللبناني جورج صليبا من الباحثين الفلكيين القلائل الذين تجندوا للوقوف ضد تلك الفكرة الجاهزة والملقاة، والتي مارست تأثيرا على عقول الناس لوقت طويل، إلى حد أنه أصبح مستحيلا التفكير خارج حدودها، وهي فكرة كون عصر النهضة الأوروبي خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر نتاجا غربيا محضا، لم تساهم فيها الحضارات السابقة ولو قيد أنملة، باختصار هي نتاج العبقرية الخالصة للذهن الغربي. ولدحض هذا الادعاء ألف الدكتور جورج صليبا أستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا في نيويورك، كتابا سنقوم بتقديمه للقارئ الكريم تحت عنوان: "العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية" والذي قام بترجمته الدكتور "محمود حداد" عن الدار العربية للعلوم - ناشرون، سنة 2011. ويمكن تقديم هذا الكتاب بالوقوف عند محطتين أساسيتين فيه: وهما إعادة النظر في الأسباب التي دفعت المسلمين لترجمة علوم الأوائل وخاصة اليونانية منها، ثم إبراز كون أن الثورة الفلكية الكوبيرنيكية وهي أهم نتاج عصر النهضة الأوروبي ما هي إلا إفراز للمجهود العربي الإسلامي. فلنقف إذن عند كل محطة على حدة. #2# لماذا كثرت الفلسفة والعلوم القديمة في التربة الإسلامية؟ ولم لجأ المسلمون إلى ترجمة العلوم من الأجانب؟ وما الحاجة إلى ذلك؟ قد أسال الكثير من المداد لكتابة الأسئلة، والتي تطرق لها العديد من المستشرقين وغالبا ما يحصر السبب في وجود المعتزلة في العصر العباسي ودعمهم من طرف المأمون (813 / 833 م) ويضاف إلى ذلك رواية قصة حلم المأمون ذات الطابع الأسطوري التي يقال عنها إنها كانت الشرارة نحو إنجاز مشروع الترجمة وإنشاء بيت الحكمة الشهير. وتحكي هذه القصة أن المأمون رأى في منامه رجلا أبيض اللون، مشربا بحمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالسا على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت. من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسالك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم؟". #3# إن هذا التفسير الذي يربط بين حلم المأمون والمعتزلة ومن ثمة أرسطو وبالتالي حركة ترجمة الفلسفة والعلوم بكاملها يسميها جورج صليبا "السرد الكلاسيكي" ويعتبره سردا ناقصا لا يجيب عن الكثير من المآزق، لذلك سيسعى إلى تقديم جواب آخر طريف يسميه "السرد البديل" وسيكون عمدته الأساس في ذلك كتاب الفهرست لابن النديم، حيث يؤكد أن عملية الترجمة وإرادة استملاك المسلمين للعلوم القديمة تمت مباشرة مع عملية إصلاح الديوان وتعريبه من طرف عبد الملك بن مروان الأموي، فمن المعروف أن هذا الخليفة هو من سك الدينار العربي متخليا عن النقود البيزنطية، إضافة إلى أنه هو الذي أمر بتعريب الدواوين التي كان يشغلها الروم بالخصوص، وكما هو معلوم فإن موظف الديوان يحتاج إلى عمليات حسابية معقدة لحساب الخراج وهو ما يجعل ترجمة الرياضيات أمرا ملحا ناهيك عن أن وقت دفع الضرائب مرتبط بالتقويم مما يفرض المعرفة الفلكية وهو ما يؤكد أن ترجمة الكتب الفلكية قد بدأت في وقت مبكر عن العصر العباسي، ولتأكيد هذا الأمر يضرب جورج صليبا مثالا واضحا وهو ترجمة الحجاج بن مطر لكتاب "المجسطي" لبطليموس سنة 829 م فقد تم ذلك في عهد المأمون لكن الاطلاع على الترجمة يثير الدهشة، فالترجمة تمت بلغة عربية سليمة ونقية ومصطلحات تقنية ناضجة و ممتازة مع تصحيح الأخطاء وسهولة في القراءة، مما يعني أنه لو كانت الترجمة قد تمت في عهد المأمون حقا، فلا محالة كانت ستكون رديئة كأي محاولة أولى في أي ترجمة جديدة، فأكيد أن الحجاج بن مطر كانت بين يديه ترجمات سابقة مكنته من أن يقدم ترجمته الأكثر دقة. يرى صليبا أن تعريب الديوان كان محركا نحو المزيد من الترجمة ويفسر ذلك كالتالي: ما دام أن الأجانب هم الذين كانوا يسيطرون على الدواوين فإن التعريب أصبح يهدد عملهم لأن العربي سيتمكن من احتلال مكانهم بسهولة وهو ما سيجعلهم في بطالة، وما سيضطرهم إلى رفع الإيقاع والذهاب إلى معلومات أكثر دقة وإلى المزيد من الاجتهاد لخلق حاجات جديدة حفاظا على مواقعهم وضمانا لبقائهم، مما يستدعي الاتجاه صوب المصادر لاسترجاع مكانتهم، باختصار يريد صليبا أن يؤكد أن الترجمة كانت جراء تنافس كبير بين البيروقراطيين، فإصلاحات عبدالملك بن مروان الخاصة بالدواوين أجبرت الموظفين، الأجانب بالخصوص، وتأمينا لرزقهم إلى اللجوء إلى المعرفة الأكثر تخصصا مما زاد من حمى الترجمة. إن أطروحة جورج صليبا توضح كون أن الترجمة لم تكن حركة من أجل تقليد ثقافة أرقى، بل الأمر تم وانطلق لدواع إدارية صرفة. تماشيا مع نفس التقسيم الذي وضعه جورج صليبا أي السرد الكلاسيكي والسرد البديل يؤكد أن هناك مغالطة أخرى ذائعة الصيت وتم ترويجها من طرف بعض المستشرقين كون أن الإمام الغزالي (توفي 1111م ) كان سببا في تردي العلم في العالم الإسلامي، فهو من سدد الضربة القاتلة للفكر العقلاني وأكمل البقية الباقية سقوط بغداد جراء الغزو المغولي سنة 1259م، فهذه الفكرة تجد ٳحراجات كثيرة وهي أن العلم لم يتوقف في العالم الإسلامي بعد هذين الحدثين بل كان عصرا ذهبيا، ونظرا لتخصص جورج صليبا في الفلك فإنه سيقدم أمثلة صارخة تثبت ضعف السرد الكلاسيكي وضرورة وجود سرد بديل، وذلك كالتالي: لقد استطاع مؤرخ علم الفلك الإسلامي "إدوارد كنيدي" في خمسينيات القرن العشرين والذي كان يعمل آنذاك كأستاذ في الجامعة الأمريكية في بيروت، العثور على عمل لابن الشاطرالدمشقي (1305 /1375) بعنوان "نهاية السؤال في تصحيح الأصول" فقدمه لصديقه "أوتو نويغبور" الذي كان حينها منكبا على دراسة علم الفلك الرياضي عند "كوبيرنيك" ولم يحتج إلى كثير ذكاء كي يكتشف التشابه بل التطابق الكامل بين هيئة ابن الشاطر لحركات القمرمع هيئة كوبيرنيك، فكان الحدث خطيرا تم تتويجه بنشر مقال كتبه فكتور روبرتوس الذي كان تلميذا لكنيدي آنذاك بعنوان "نظرية ابن الشاطر لحركات الشمس والقمر: هيئة كوبيرنيكية سابقة لكوبيرنيك". هذا الأمر حرك أبحاثا أخرى حيث تمكن الباحث "ويلي هارتنر"في سنة 1973 من أن يكتشف أمرا شبيها ولكن هذه المرة مع " نصير الدين الطوسي" الذي وضع نظرية تسمى "مزدوجة الطوسي" والتي لم يعرفها اليونان وهي موجودة كاملة عند كوبيرنيك بل هي هيئة تحمل حتى الأصوات الأبجدية نفسها بالنسبة إلى النقاط الهندسية الأساسية مما دفع بويتلي هارتنر إلى إعلان أن كوبيرنيك لا محالة تعرف على أعمال الطوسي خلال وجوده في إيطاليا. إضافة إلى ذلك، اهتدى جورج صليبا نفسه إلى كتاب الهيئة "لمؤيد الدين العرضي" وقام بتحقيقه وهو يتضمن نظرية تسمى "مقدمة العرضي" كان قد استخدمها كوبيرنيك أيضا" إننا إذن أمام اكتشافات جديدة ومدوية أبطالها رواد مرصد مراغة، وهي من تأسيس نصير الدين الطوسي (1201/1274) في غرب إيران وذلك سنة 1259. فهو من وضع مشروع لإصلاح فلك بطليموس، فكون مكتبة مختصة واستقطب علماء مرموقين من مناطق أخرى للعمل المشترك كمؤيد الدين العرضي، ويحيى المغربي، وقطب الدين الشيرازي، ونظام الدين النيسابوري، فعمل كوبيرنيك "في دوران الأجرام السماوية" سنة 1543 وهو أهم عمل في عصر النهضة سيمهد للزمن الحديث ويضم هيئات رياضية أنضجتها الحضارة العربية - الإسلامية، وهو الأمر الذي خلق ارتباكا في الوسط الأكاديمي، ذلك لأن علوم عصر النهضة الأوروبية كان تعتبر ابتكارا غربيا قائما بذاته أي أن هذه العلوم أحدثت من العدم تقريبا ومن كان يريد العودة إلى الوراء فليتجه صوب التراث اليوناني. أما الآن فبدأت تتضح الأمور وبدأ يدرك الناس أن المخاض الحقيقي لانبثاق الكوبيرنيكية كان عربيا - إسلاميا وهو ما سماه جورج صليبا بثورة مراغة. * أستاذ الفلسفة - المغرب
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون