Author

علاقة حكم اكتتاب البنك الأهلي بمطابع الحكومة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
1 - في قلب الأزمة المالية التي عصفت بالعالم قبل عدة سنوات، كنت أتابع قناة "روسيا اليوم" التي كانت تبث الكثير من التحليلات الاقتصادية عن تلك الأزمة، وفي إحدى تلك الحلقات قال أحد المحللين إن تجاوز الأزمة يكمن في قدرة المطابع الأمريكية على طباعة الدولار. فما العلاقة بين الأزمة المالية والمطابع الأمريكية؟ إنها العلاقة بين الاقتصاد والنقود. فالولايات المتحدة وجميع مصارفها لم تكن فيها أوراق نقدية في مقابل كل الأرصدة التي فيها، وعندما بدأت الأزمة كانت الناس تسحب الأرصدة من المصارف ولأنه لم تكن هناك أوراق كافية في مقابل كل عمليات السحب تلك لذلك كان انهيار الاقتصاد الأمريكي وشيكا والحل فعلا كان في قدرة المطابع على طباعة الدولار وتوفيره للمصارف وتسليمه للناس عند الطلب، فإذا كانت الحقيقة تقول إن المصارف والحكومة الأمريكية لم يكن لديهما أوراق تغطي كل تلك الحسابات فماذا كان المواطن الأمريكي يمتلك فعلا؟ وكيف كان الناس يتبادلون السلع هناك؟ 2 - الحقيقة أن ما يحدث في الولايات المتحدة هو الذي يحصل في كل بلاد الدنيا، المصارف ليست لديها نقود "ورقية" تغطي كل حساباتنا، بل حتى مؤسسة النقد (أو البنوك المركزية) لا تمتلك في خزائنها "نقودا ورقية" تغطي كل الأرصدة. وإذا كانت الحال هذه فماذا نمتلك فعلا في مقابل تلك الأرقام التي في المصارف؟ ما ثروتنا الحقيقية؟ 3 - لعل أكثر الموضوعات إثارة للنقاش خلال الأسابيع الماضية كان موضوع اكتتاب البنك الأهلي، بل تحول إلى قضية رأي عام، والمشكلة تكمن في الفوائد التي يأخذها البنك عن الديون والسندات، وفي المقابل هناك مصارف تسمي نفسها الإسلامية يقول الفقهاء بجواز التعامل معها على أساس أنها لا تتعامل بالديون رغم أنها تتعامل بسعر الفائدة، وهناك شركات تسمى مختلطة وشركات نظيفة وكلها تتعامل بسعر الفائدة. 4 - عند الفقهاء، الربا يقع في هذه "النقود الورقية"، وأي تبادل يجب أن يكون يدا بيد سواء بسواء. في المقابل يرى الاقتصاديون أن النقود لم تعد لها صورة واحدة ولا قيمة متماثلة، فقيمة الريال اليوم لا تساوي قيمة الريال بعد سنة، لكن أيضا صورته تختلف بين شخص وآخر، وبينما نقف أمام البائع ليدفع أحدنا 100 ريال من خلال الشبكة، قد يدفعها الآخر في صورة ورقية. فهل كلاهما سواء ويدا بيد؟ 5 - النقود اليوم ليست لها علاقة بالذهب أبدا لا من قريب ولا من بعيد. بل إنها اليوم – كما قلت - أصبحت تأخذ صورا وأشكالا عدة، ولم تعد في صورة واحدة. فهناك اليوم النقود الورقية وهناك النقود الائتمانية (ديون على المصارف)، وهناك تبادل يومي بينهما، فالاسم واحد (ريال مثلا) لكن هناك ريال في صورة ورقية وريال في صورة ائتمانية (دين)، فهل نحن نتبادل فيما بيننا ديونا ونأخذ مقابلها ورقا أو سلعا؟ الواقع يقول بنعم. 6 - يتصور الإنسان العادي غير المتخصص أن المصرف أو الدولة تحتفظ بأوراق نقدية في مقابل كل أرصدة الحسابات التي في المصارف سواء كانت شخصية أو حسابات مؤسسات، لكن الأمر على غير ذلك تماما، بل قد لا يكون في الدولة كلها من الأوراق حتى ثلث هذه الأرصدة، فأرصدة الحسابات في المصارف هي مجرد "أرقام"، وأن المصارف تثبتها كحقوق لنا عندها، تسلمها عند الطلب (وفي أي صورة نريد)، وفي هذا العصر لا نقوم بطلب النقود كلما أردنا أن نشتري أو نبيع بل فقط نتبادل "الأرقام" التي في المصارف (أي نتبادل الحقوق) أي عندما تذهب وتشتري سلعة من أي محل وتدفع بشيك مثلا أو من خلال الشبكة فإنك ببساطة تقوم بنقل الرصيد من حسابك في المصرف (أ) إلى حساب المحل في المصرف (ب) أي نتبادل الحقوق بين المصارف، لكن النقود الورقية ليست لها علاقة بكل هذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد، ولم يعد هنا يدا بيد أو مثلا بمثل. وعندما ترغب في استخدام هذه الحقوق بتحويلها إلى نقد فإن المصرف يسددك من أي جهاز لديه أو من غيره وهذا عبارة عن سداد لجزء من الحق على المصرف وليس لأن لديك أوراقا نقدية عنده وهو يردها لك. 7 - مؤسسة النقد تمثل مصرف المصارف، فما نتعامل به مع المصرف من أرصدة تمثل حقوقا، يتعامل المصرف بمثلها مع مؤسسة النقد التي لديها أرصدة لكل المصارف تمثل حقوقها عند مؤسسة النقد وليست أكياسا من الورق. 8 - الدولة تدفع فوائد في مقابل احتفاظها بتلك الحقوق لمدة معينة ليس لأنها تريد أن تنفع المصارف وتربحها، بل لأن النقود تنشأ بكل صورها (في الاقتصاد الحديث) بناء على حجم الاقتصاد والإنتاج وحالة الأصول الإنتاجية، وبما أن حجم الاقتصاد يتغير بين فترة وأخرى فإن قيمة الحقوق هذه تتغير بناء على تغير الزمن والفرق بين القيمة الأولى للحقوق والثانية هي الفائدة، ولأن مؤسسة النقد هي المخولة بقياس هذا التغير في حجم الاقتصاد فإنها تقرر سعر الفائدة الذي يستحق عن احتفاظها بحقوق المصارف بناء على ذلك، وكلما غيرت سعر الفائدة تغيرت قيم الحقوق. 9 - تتنافس الدول والاقتصادات في العالم لجذب حقوق المصارف (بطرح سندات للبيع) من خلال تعزيز قدرة اقتصادها ونموه، لذلك تفضل المصارف وضع حقوقها عند الدول التي ينمو اقتصادها بسرعة أفضل أو بضمانات أقوى وأصدق. 10 - وهكذا لا يمكن لأي اقتصاد حديث أن يعيش دون هذه الفائدة، فبسعر الفائدة نعرف حجم النمو في الاقتصاد، وبسعرها نعرف حجم النقود التي نحتاج إليها، وبسعرها نعرف كم ستطبع الدولة من نقد ورقي، وبسعرها نعرف هل نحن على حافة الكساد أو في مواجهة نار التضخم، وبسعر الفائدة نعالج الأمرين. 11 - وهكذا وبشكل دائم تحافظ المصارف على ثروتها لدى المؤسسة (قيمة حقوقها) من خلال الحصول على الفائدة أو دفعها في المقابل وبينما هي تفعل ذلك فإنها (عندنا فقط) لا تعوض الناس عن قيمة النقص الذي يطرأ على ثرواتهم كلما مر الزمن وتغير حجم الاقتصاد (على أساس أن الفائدة محرمة) بالرغم من أننا لم نعط المصارف "ورقا" وليس لدينا ورق في مقابل كل أرصدتنا بل هي حقوقنا في الاقتصاد السعودي الذي ساهمنا فيه، وتقوم مؤسسة النقد بوزنه من خلال الفائدة، هذه الحقوق قد نحتاج أحيانا إلى تحويلها إلى نقد ورقي نتبادل به السلع فهل عندما نسترد حقوقنا في أي صورة (نقود ائتمانية أو ورقية أو خليط بينها) تصبح حراما علينا؟ 12 - مع تحريم اكتتاب البنك الأهلي أرفع هذا السؤال إلى سماحة المفتي.
إنشرها