Author

من يدفع ثمن آثام التدوير العقاري؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
إنه المواطن أولا، والاقتصاد الوطني ثانيا. أما المستفيد منه فلا يتعدى ثلة قليلة من الناشطين وراء طواحينه، يضاف إليهم النائمون من المحتكرين على مئات الملايين من مساحات الأراضي. الجميع كان ضحية غياب الإحصاءات والمعلومات الحقيقية المتعلقة بالسوق العقارية، وحينما كشف النقاب عن تلك المعلومات، تم اكتشاف أن الثمن كان أفدح مما لم يخطر على بال أكثر المتشائمين. في السابق كانت تنشر أرقام حول حجم نشاط السوق العقارية، يصدم الجميع بضخامتها، وتترك انطباعا لا يمكن الوقوف ضده مهما أوتيت من الحجج، وأن الأسعار المتضخمة ستواصل صعودها دون توقف، فيسقط المواطن فريسة (أو قل ضحية) سهلة المنال، للمفترسين داخل السور الغامض (سوق العقار). إليك هذا المثال الفعلي، بلغ حجم نشاط السوق العقارية في عام 1434 نحو 388.4 مليار ريال، ويقدر وفقا لآخر الإحصاءات بلوغه بنهاية العام الهجري الجاري 439.6 مليار ريال، بنمو سنوي يناهز 13.2 في المائة. هل كان أحد منا يعلم ماذا تستبطن تلك الأرقام من تفاصيل؟ لا أحد يعلم منها مثقال ذرة، فلا يوجد سوى هذه الأرقام المجمعة، قذف بها في أعين الجميع عبر مختلف وسائل الإعلام طوال الأعوام الماضية، وحدث أن شهد الاقتصاد والسوق وقبلهما المجتمع السعودي فصولاً دراماتيكية من اللهث خلف هذا "التراب"، ولكن لا مجال للحاق به تحت هذا القفز السنوي بعشرات المليارات من الريالات، إلا أن تستسلم للأمر الواقع. كشفت وزارة العدل ــ بعد طول انتظار ــ تفاصيل تلك المليارات المدارة في سوق العقار بما لم يخطر على بال أحد من العالمين، وكان وقع الصدمة منفردة أكبر من مجموع تلك الصدمات التي مضت طوال الأعوام الأخيرة. لقد تبين أن الحجم الحقيقي للسوق العقاري (منتجات سكنية) دون الأراضي لا يتجاوز 4.5 في المائة إلى 5.0 في المائة من تلك الأرقام من حيث قيمة الصفقات، وكشفت أيضا أن حجمها الحقيقي من حيث المساحات لا يتجاوز 0.6 في المائة من إجمالي المساحات المتداولة في السوق! وكشفت أيضا أن حتى مجموع المساحات على مختلف أنواعها العقاري المطور وغير المطور كأراض فقط التي يتم تداولها طوال العام، لا تتجاوز بدوره نسبة 0.1 في المائة من الحجم الكلي للأراضي الصالحة للتطوير والإسكان، هذا مع وجود عامل التدوير؛ إذ لو تمت معالجته وإزالة أثره، فإن النتيجة ستكون أدنى من هذه النسبة بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف، أي أنك تتحدث عما تصل نسبته إلى 0.04 في المائة! أيعقل أن يدفع الاقتصاد والمجتمع ثمن غياب تلك المعلومات المهمة ما دفعه ويدفعه في الوقت الراهن؟ أيعقل أن يرتفع ثمن غياب الإفصاح والنشر المعلوماتي إلى الحدود التي نقف على صفيحها الساخن؟ أيعقل أن نتأخر بعد اليوم عن نشر ما يجب من الإحصاءات والمعلومات الكافية عن الأداء الاقتصادي، وها نحن نرى كم هو الثمن فادح جداً أن لا يتم الإفصاح عنها بانتظام واستمرار؟ إن البيانات والإحصاءات التي تعكف وزارة العدل (مشكورة) على نشرها، تكشف يوماً بعد يوم أساس الداء والبلاء الذي عجزنا جميعا دون استثناء عن حله حتى الساعة، لا يستثنى أحد من الأطراف ذات العلاقة من هذا الفشل، وفي مقدّمة تلك الأطراف اليوم وزارة الإسكان، لا لقصور في قدراتها وإمكاناتها، بل لغياب تلك الحقائق عنها وعن بقية الأطراف، بدءا من الأجهزة الحكومية وانتهاء بالمواطن الذي كان أكبر الخاسرين من هذه القصة الغامضة إلى وقت قريب. الآن وقد انكشفت الحقائق؛ المتمثلة في أن مصدر الأزمة الأكبر في تاريخ الاقتصاد الوطني (أزمة الإسكان)، لا يتعدى حجمها سقف 0.04 في المائة من الأراضي الصالحة للتطوير والتعمير، وأن احتدام التدوير والمضاربات حول رأس هذا (الدبوس الصغير جداً) كان وراء سخونة أسعار الأراضي عمومها، التي في الأصل لم يفكر ملاكها من قريب أو بعيد في مجرد تطويرها أو عرضها للبيع، وكل ما قد يكون قد قام به، أن يسأل أحد السماسرة عن مستوى الأسعار التي وصلت إليها في الموقع الذي يمتلك فيه ملايين الأمتار، فيجيبه بأرقام تبعث في نفسه الرضا والطمأنينة، بينما هي تبعث في بقية الأنفس الشقاء والبؤس والقلق، وما نشهده اليوم من فصول الأزمة الإسكانية. إذا انكشف الداء وأساسه، أصبح الدواء في متناول اليد! هذه القاعدة الأبسط، التي يدركها قليل التعليم والخبرة، فما بالك بمن حمل أعلى الشهادات الأكاديمية؟ لدينا (رأس دبوس) أوقد الأسعار، ولدينا (ديناصور) نائم تحت ظله الصغير، يزيد سعر الرأس لأسباب واهية، فيزيد سعر النائم الكسلان دون عناء! بناء عليه؛ يجب أن توجه مشارط العلاج المختلفة إلى الطرفين، فتفرض الأنظمة المانعة للتدوير على الرأس الصغير الحجم، وتفرض الرسوم الباهظة على الأراضي التي تدويرها أكثر من مرة خلال أقل من عام. أما (الديناصور) النائم فلا أجدى من فرض الرسوم والزكاة على جسده العملاق، الجسد الرابض على مقدرات الوطن والاقتصاد والمجتمع على حد سواء، حينها سيضطر مرغما على الإفاقة من نومته السرمدية، والتحرك نحو الغاية الرئيسة التي لأجلها أوجده الخالق الكريم، الإحياء والتعمير والوفاء بغاياتها الخادمة للمصلحة العامة، لا كما بهذا النوم الأبدي الذي لم يخدم إلا ثلة من ملاكه، ألحق بالغ الأذى وأشده وقعا بخلق الله. يمكن القول إن القصة المفبركة على أنها أم الأزمات التنموية في بلادنا قد أوشكت على النهاية، وهي نهاية لم تكن تستدعي كما تبين لنا بعد انكشاف حقائقها المخفية سابقا، أنها تستحق تخصيص تلك الأموال التي وصلت إلى 250 مليار ريال، والتي كانت ستظل مجرد مخدر مؤقت محدود الأثر، لو لم ينكشف الداء الحقيقي للأزمة المفتعلة! فإن تم اتخاذ القرارات اللازمة، وفرض الرسوم والزكاة كما هو مخطط له، فأقولها متأكدا أن قرض الـ 500 ألف ريال سيكون كافيا جدا لشراء الأرض وبناء المسكن وحتى تأثيثه! بل إنك ستجد العديد من المواطنين الميسوري الحال (متوسطي الدخل)، سيصبح بإمكانهم تحقيق تلك المعادلة في أقل من عام إلى عامين فقط، دون اللجوء إلى الاقتراض من صندوق التنمية العقاري أو مؤسسات التمويل العقاري. علمنا بالداء من أين أتى، وعلمنا بطريق الدواء وكيف يمكن تحقيقه وتنفيذه! فهل بعدئذ يمكن القبول بأي أعذار مفلسة جدا خارج هذه المعادلة الواضحة؟ والله ولي التوفيق.
إنشرها