Author

أب يوزع الصحف

|
أثناء دراستي للغة الإنجليزية صيفا في مدينة دبلن أواخر التسعينيات الميلادية، استغربت ذات صباح من قيام رجل يقود سيارة جميلة بإحضاره للصحيفة اليومية. سألت سيدة المنزل فقالت لي بأن هذا الرجل هو والد الصبي "توم" الذي يوزع الصحف كل صباح على دراجته، غير أن هذا الصبي ذهب في رحلة مدرسية لمدة يومين، ووالده يقوم بتوزيع نصيبه من الصحف على سكان الحي أثناء غيابه، حتى لا يتغير جدوله اليومي مع موزع الصحيفة وقرائها. على الرغم من حرص والد "توم" على إلقاء التحية على أهل المنزل ومبادلتهم الابتسامات، إلا أنني كنت أكثر تعجبا من حرصه على قيادة سيارته والوقوف أمام كل منزل والتأكد من تسليمه للصحيفة، كانت مهمة "توم" مقدسة ووالده هو الداعم الأكبر لها، في غيابه وطبعا أثناء حضوره. فهمت حينها بأن ذلك الصبي الذي يصغرني بكثير في تلك الأيام لم يكن يعمل لأنه فقير محتاج لمكافأة توزيع الصحف، بل لأنه يتدرب بكل جدية على العمل والاعتماد على النفس. عدت وأكملت الثانوية وبدأت دراستي الجامعية، ولم أحظ بفرصتي التدريبية الأولى إلا بعد إلزامية النظام الجامعي بالتدريب التعاوني الذي تقدمه جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. بدأت العادات والظروف تتغير اليوم، بدأنا نرى الكثير من مقدمي الخدمات وملاك محال التجزئة الكبرى الذين يعرضون العديد من الفرص التدريبية للشباب؛ وهناك بالتأكيد برامج منظمة معروفة لتدريب الطلاب أثناء الصيف. تجد هذه البرامج إقبالا معتبرا يصل أحيانا إلى الطلب المرتفع الذي يتجاوز الفرص المتاحة. نحن لم نصل بعد إلى نقطة التحول الأهم، ما تزال فكرة التدرب تصل إلى الشاب متأخرة، وما تزال فرص التدريب محدودة. لا يرى المراهق مثلا في التدريب فرصة لإثبات الذات، بل قد لا يعلم بأنه يستطيع القيام بها إن رغب في ذلك، وهذا عائد بكل تأكيد لغياب التوجيه والأجواء الداعمة لذلك. هناك من يتخيل بأن انشغال طالب الثانوية في برنامج تدريبي أثناء الدراسة سيشغله عن دراسته أكثر، فهو يعاني من صعوبة إيجاد الوقت الكافي للمذاكرة خصوصا مع مضيعات الوقت العديدة، فكيف يقوم بواجباته إن زاد عليه الحمل؟ هذا مجرد قصور في التصور، فالمهارات التي يكتسبها الطالب من الالتزام بالعمل تعزز الروح الانضباطية والشعور بالمسؤولية، وترتفع إنتاجيته حين ذلك، بل سيصبح أقدر على إمضاء ساعات المذاكرة بدون أن يضغط عليه أحد، سيشعر بالمسؤولية ويتحملها. في الجانب الآخر نجد أن فرص التدريب المتاحة محدودة بالزمان – صيفا فقط – أو بالمكان - في بعض المدن، بل في أماكن محدودة داخل المدينة. وهي محددة كذلك لأعمار معينة، إذ تقل الفرص كلما قل عمر الشاب، فطالب الصف الثالث الثانوي يجد فرصا أقل من طالب الجامعة، وبقية طلاب المراحل الثانوية يجدون فرصا أقل من ذلك. يجب أن يبدأ دور الجهات الداعمة للتدريب من الحي الذي يسكن به الطالب، لا بد أن تتاح فرصة التدريب قريبا من منزله وفي الوقت الذي يلائم برنامجه اليومي. وهذا لن يحصل إلا إذا وجدت الأعمال التجارية التي تستفيد من الحركة داخل الأحياء حوافز على التدريب، كما تجد حوافز التوظيف. ما الذي يمنع من أن تتاح فرص التدريب في "سوبرماركت" الحي الذي نجد منه عشرات النسخ ربما في كل شارع! قد تشارك المدارس أيضا بمساحاتها التي لا تستغل مساء بتنفيذ الورش المهنية التدريبية وتنفيذ البرامج المنتجة طوال العام. المجال بالطبع مفتوح للاقتراحات لكن من الذي يبادر ويعمل. على الرغم من وجود عدة برامج على المستوى الوطني لمعالجة مشكلة التدريب بأنواعه، إلا أن الكثير من الشباب ما يزال يعاني للحصول على فرصة التدريب النظامية، ناهيك عن الفرص الاختيارية الأخرى التي يجب أن يسعى لها وتتاح له. أعتقد أن خريج التعليم العالي يجب أن يحظى قبل تخرجه على الأقل بثلاث فرص تدريبية مكتملة. إحداها إلزامية والبقية اختيارية يقوم بها من تلقاء نفسه من مرحلة مبكرة. نعم هناك من الشباب السعوديين من يتدرب ويعمل كل صيف وربما خارج فترات الصيف ابتداء من أوائل المرحلة الثانوية وحتى يجد عمله النظامي الدائم، إلا أن هؤلاء قلة محظوظون بدعم من حولهم وإيجادهم لهذه الفرص. أما من يسأل "أين أتدرب؟" ومن لم يصل لمرحلة السؤال بعد فهم بحاجة من يساعدهم، من يزيد من خيارات وحوافز التدريب لهم، خصوصا على مستوى الحي والأسرة.
إنشرها